محمود حسونة
ما حدث الأربعاء الماضي في مبنى الكونجرس الأمريكي أمر لم يتخيله أحد، بل فاق خيال الروائيين و«شطحات» ورؤى المبدعين وتوقعات الدجالين، يوم تزلزلت فيه أمريكا، واهتزّ معقل ديمقراطيتها، وتحوّل إلى ساحة كر وفر بين رجال الأمن والفوضويين الذين أرادوا الانقلاب على كلمة الناخب، وفرض فترة ثانية للرئيس المنتهية ولايته.
يومٌ تزلزلت فيه العاصمة الأمريكية واشنطن، واحتمى المشرعون في قاعة محصنة، خوفاً من أن تبطش بهم يد الإرهاب الأبيض، بعد أن بطشت بصورة الديمقراطية والدولة التي استباحت دولاً بدعوى نشر الديمقراطية فيها، وحاصرت دولاً تحت شعار حماية الديمقراطية، وصنفت العالم بين ديمقراطي مرضيّ عنه، وغير ديمقراطي مغضوب عليه ومطلقة عليه كل سهام السياسة وقذائف الإعلام وقنابل حقوق الإنسان.
الهزة التي تعرضت لها أمريكا ليست نتيجة أفعال الأعداء ولا الحاقدين ولا المتآمرين ولا المتربصين من الخارج، ولكنها من صنع رئيس أمريكي لا يزال يسكن البيت الأبيض، ونال في آخر انتخابات أكثر من ٧٠ مليون صوت، وأيده أقل قليلاً من نصف الأمريكيين، ولكنه يرفض أن يكون لأمريكا رئيس غيره، وبدأ رحلة التهديد والوعيد قبل الانتخابات، وبعد إعلان النتائج استخدم أسلوب التشكيك مصحوباً بالوعيد، ثم لجأ إلى القضاء أملاً أنْ يجد فيه من يسانده، وبعد أن جاءت كلمة القضاء على غير هواه، تعلّق بحبال المجمع الانتخابي الذي خيّب أماله، فانتظر ٦ يناير يوم تصديق الكونجرس على النتائج، ونجح في استقطاب بعض الأعضاء الذين ذهبوا لمبنى الكابيتول، ولديهم نية تفخيخ الجلسة، وباعتبار أن هذا اليوم هو أمله الوحيد، وأن عدد الأعضاء الجمهوريين الذين وافقوا على السير في دربه لا يكفي لتحقيق الانقلاب الذي ينويه، جاءت دعوته للتظاهر أمام الكونجرس للضغط على الأعضاء، وإجبارهم على تغيير النتيجة، والإبقاء عليه رئيساً.
لعل كلام الرئيس الأسبق جورج بوش الابن هو الأكثر صدقاً مع النفس عبر تاريخه عندما وصف ما حدث بأنه «يليق بجمهوريات الموز وليس بجمهوريتنا الديمقراطية»؛ كما أن يوم السادس من يناير سيذكره التاريخ بنفس التوصيف الذي ذكره نائب الرئيس مايك بنس بأنه «يوم أسود»، والذي صبّ عليه ترامب جام غضبه، ونال منه بسبب عدم تفخيخه لجلسة التصديق على نتائج الانتخابات. ورغم أن بنس كان خلال السنوات الأربع الماضية ظلاً لترامب، إلا أنه خلع عنه جلبابه الأربعاء الماضي، ولَم يتخلَّ فقط عن ترامب، بل وقف في وجه جموحه، وعبّر عن استيائه مما حدث، مؤكداً أن في الولايات المتحدة الأمريكية رجالاً يظهرون حرصهم على الدولة ومبادئها السياسية عندما تتعرض ديمقراطيتها لتهديد، حتى لو كان من أقرب الناس إليهم، فالدول لا بد أن تبقى، والأشخاص مهما كانت مكانتهم فإلى زوال.
لم يكن بنس وحده صاحب الموقف الوطني في ذلك اليوم، ولكن يمكن القول بأن الحزب الجمهوري قد انقلب على ترامب، والعديد من أعضائه الذين كانوا يتجهون للتشكيك في النتائج سارعوا بالتصديق على رئاسة بايدن، وقد يكون ذلك غضباً من الفوضى والاقتحام غير المسبوق، لكنه بالتأكيد قفز من سفينة رأوها تغرق، كما قد يكون إنقاذاً لسمعة حزب تقاسم الحكم وشارك في صناعة القرار على مدى نحو قرن ونصف القرن، وأصبح مهدداً بفعل سياسات ترامب والتي اختتمها بواقعة «الأربعاء الأسود».
محاولات دونالد ترامب لاحتواء الموقف لن تجدي، والمطالبات بمساءلته قانونياً قد تتحول إلى واقع، وليس مستبعداً أن نراه يحاكم، شأنه في ذلك شأن العديد من رؤساء دول العالم الثالث الذين تمت محاكمتهم، أما بالنسبة لعزله من الحكم فقد لا يكون أمراً مهماً؛ لأنه بأفعاله حكم على نفسه بالعزلة السياسية خلال الأيام المتبقية له في البيت الأبيض، وأيّاً كان المصير الذي ينتظره، فإن الشعب الأمريكي والرأي العام العالمي قد حكما عليه فعلياً، كما عزلته مواقع التواصل الاجتماعي، ولن يغفر له التاريخ خطيئة السادس من يناير، وهي الخطيئة التي ستفتح أبواب محاكمته تاريخياً على قرارات عدة اتخذها خلال سنوات حكمه، وكان يمكن التغافل عنها لولا يوم الفوضى المشهود.