"الربيع العربي" والفوضى الخلاقة

04:50 صباحا
قراءة 4 دقائق

لا أظن أن تصريحاً سياسياً تبدو قيمته الآن أكثر من تلك الكلمات التي عبرت بها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس، عندما تحدثت عن الميلاد الجديد من أحشاء الفوضى الخلاقة .

لقد قالت هذه العبارة منذ سنوات واستقبلناها بتفسيرات بسيطة وحسبنا أنها تعكس ظرفاً معيناً لا تتجاوزه، بينما أثبتت الأيام بعد ذلك وأظهرت أحداث 2011 أن كوندوليزا رايس، كانت تقرأ في كتاب مفتوح، وأن المسألة أكبر بكثير من ثورات شعوب عانت الفساد والاستبداد، وأبعد من ذلك الربيع العربي الذي زار المنطقة بعد طول احتجاب .

إننا نتذكر دائماً أن ميلاد الكون في أحدث التفسيرات قد ولد من ذلك الانفجار العظيم، حتى إنهم يقومون حالياً بتجارب علمية متعمقة في باطن الأرض تحت مدينة جنيف يدرسون ويبحثون في محاولة مضنية لاكتشاف سر الخليقة ولغز نشأة الكون، ونحن نقول ذلك الآن بمناسبة ما يحيط بنا على المستويين المحلي والإقليمي من فوضى تثير القلق أحياناً، وتبعث على الألم أحياناً أخرى، إذ لم نتعود أن تكون للفوضى إيجابيات ولكنها عملية الميلاد الجديد التي أصبحت تحمل في طياتها مزايا لم تكن مفهومة من قبل . . دعنا نبحث في هذا الإطار لعلنا نغوص في أعماق هذا التصور الجديد:

* أولاً: إن الثورات عملية تغيير جذري تعيد صياغة المجتمع وترتب طبقاته وفئاته من جديد، ولذلك فإن منظومة العلاقات السياسية والاجتماعية تتغير تبعاً لذلك، بل إن ثقافة المجتمع تأخذ هي الأخرى طريقها نحو التغيير ونكون بصدد شبكة جديدة من الأفكار والسياسات بل والشخوص أيضاً . إن الثورة عملية تغيير هائل يعيد صياغة علاقات الإنتاج والعمل، بل ويتطرق إلى مراكز القوى في الدولة بشكل عاصف يغير من التركيبة القائمة ويسمح بتحولات لم تكن متاحة في الظروف الطبيعية . إن الثورة ظرف استثنائي لا يمكن إنكار وجوده أو الالتفاف عليه، لأنها تقترن بحالة من الفوران العاطفي والانفعال الغاضب ضد أوضاع قديمة مطلوب تغييرها وظروف قائمة مطلوب القفز فوقها . إن الثورة تعيد لحمة النسيج الاجتماعي بمغزل جديد يعتمد على مفهوم التعبئة الشاملة، ويستند في كثير من الأحوال إلى منطق الشرعية الثورية حتى تتزايد بشكل واضح التظاهرات والاعتصامات والإضرابات وتبدو تلك أموراً مألوفة في مناخ الثورة، حيث تتزايد المطالب الفئوية وتتراجع قيمة القيادات قديمة وجديدة أمام طوفان كاسح يغلي بقوة اندفاع الثورة ووقود شهدائها .

* ثانياً: مثلما هو الزلزال الكبير الذي تأتي توابعه بتأثيرات قوية لا تقل في عنفها بل ودرجة حدتها أيضاً عن الزلزال الكبير، وإذا كان الناس يخرجون عندئذ، من منازلهم سراعاً وُيْهرَعون إلى الشوارع عدواً، فإن الثورة تحدث شيئاً من ذلك، وتدفع بالجماهير نحو الميادين الفسيحة والشوارع الواسعة . ألم تقترن ثورة عرابي بميدان عابدين؟ وارتبطت ثورة عبد الناصر بميدان المنشية؟ وها هي الثورة المصرية الشعبية الكبرى تجد ملاذها الكبير في ميدان التحرير وسط العاصمة، متحكمة بذلك في شرايين الحركة داخل مدينة ضخمة لا يقل عدد سكانها عن خمسة عشر مليوناً ليلاً وما يزيد على ذلك نهاراً؟ لذلك فإن الحديث عن حالة الفوضى لا يبدو حديثاً مستورداً بل هو نموذج متكرر أثناء الثورات وفي أعقابها، ولكن اللافت هو أن هذه الانتفاضات الكبرى تأتي من رحمها نظم جديدة، وهذا تأكيد لفكرة الفوضى الخلاقة، فإذا كانت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة قد أشارت إليها في سياق الأحداث الدولية والتغييرات الإقليمية، فإن الأمر ينسحب أيضاً على الأوضاع الداخلية .

* ثالثاً: هناك محظور ينبغي أن يتنبه إليه الثوار في كل الأقطار، وهو أنه ليست كل فوضى خلاقةً بالضرورة، فهناك نوع من الفوضى السوداء التي تهدم ولا تبني، تحطم ولا تشيد، تتفرغ للانتقام، ولا تسعى إلى البناء، تتصرف باندفاع وفقاً لخيالات وأوهام ليست دائماً صحيحة، ونحن هنا في المنطقة العربية التي عانت شعوبها القهر والاستبداد والتدخل الأجنبي والفساد وندرك أن هناك محاولة لإعادة هيكلة دول الوطن العربي على نحوٍ يبدو شبيهاً باتفاقيات (سايكس بيكو) في مطلع القرن العشرين، إنها مرحلة تقترب من تلك التي أعقبت الحربين العالميتين الأولى والثانية في أوروبا والشرق الأدنى، حيث تمت زراعة إسرائيل شوكة في قلب العرب تمزق أحلامهم وتبّدد آمالهم، إننا أمام تحولات واضحة وتغييرات جذرية تشير إلى أن عهداً جديداً يطل على دولنا ونحن الأقدر على توجيهه في الاتجاه الصحيح بدلاً من المراوغة وإنكار الحقائق وتوزيع الاتهامات . وهنا ألفت النظر إلى أنه لا يبني الأوطان إلا أبناؤها، ولا يقيم نهضتها إلا شعوبها، ولقد كنا دائماً مدركين لهذه الحقيقة عندما خاض محمد علي معركة البناء الحديث للدولة العصرية في مصر منذ أكثر من قرنين من الزمان، ونتذكر دائماً أن لهذا البلد هوية وسطية معتدلة لشعب متفتح على كل الحضارات وجميع الثقافات، ولن تستطيع قوة ما، مهما بلغ جبروتها ومهما استبدت بها نشوة الانتصار أن تقيم كياناً مختلفاً يبتعد عن الميراث الحضاري الكبير للدولة المصرية، مدركين أن العلاقة بين الدولة والثورة هي علاقة الأم بالابن لا يخرج عن إطارها ولا تتخلى هي عنه أيضاً، من هنا فإنني أنبه، أن كيان الدولة المصرية بأمنها القومي ومصالحها العليا تسبق كل شيء، والقائل بغير ذلك عبثي النزعة، فوضوي الرؤية، فاقدٌ للوطنية .

. . إننا نؤمن بأن أوضاع مصر قبل 25 يناير 2011 كانت تحتم قيام ثورة شعبية تطيح نظاماً هَرِماً، وتفتح الأبواب أمام تداول السلطة وتحتوي القوى السياسية المختلفة بغير استبعادٍ أو إقصاء، ولقد كانت الأسابيع الأولى للثورة عرساً رائعاً في التاريخ المصري الحديث كله، ولكن بعد مرور عام كامل على الثورة نقول إن الأمور يجب أن توضع في نصابها، فالفوضى الخلاقة ليست بالضرورة هي الطريق إلى النهضة والسبيل إلى الإصلاح، بل لابد من ضوابط تنبع من ضمير المجتمع وتفكر في المصالح العليا للبلاد، لأن الانسياق وراء ظاهرة الجماهير يحتاج إلى حساباتٍ خاصة ودراسات دقيقة تعطي الاقتصاد القومي أولوية، وتدفع بعجلة الإنتاج وتجعل بناء الجديد متواكباً مع هدم القديم، فالفارق بين الثورة والهوجة ينبثق من فهم الظروف ودراسة المعطيات ثم ترتيب الأولويات .

هذه رؤيتنا أمام هذا الظرف التاريخي الفريد في دولةٍ اشتغل شعبها بصناعة الحضارات واستيعاب الثقافات واحتواء الأفكار والفلسفات .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"