في البحث عن تلك الكتب التي ترممنا مشقة ومتعة في آن - فعل الترميم ليس القصد من الكتب - ويعتمد الأمر على طريقة القارئ ومستوى وعيه الذي يجعله يؤمن بأن الاقتراب من ثمرة المعرفة ما هو إلا بعد عن عتمة الجهل، إذ إن المعرفة ستظل حقيقة عصية وغير مكتملة، فالكمال لله وحده ولا يمكن لأي منا أن يدعي أنه حازه مهما طالت سنوات خبرته وتعمقت تجربته وامتدت، أما الأصل في كل ذلك فهو السعي وراء الأسئلة لا الإجابات، وكتاب «النبي» لجبران خليل جبران هو أحد تلك الكتب التي تقدم للقارئ رسالة طويلة في التفاعل مع الحياة من خلال الاستفهام عن قضاياها الكبرى، وتمثل الشخصية في هذه الرحلة رمزية للباحث في الحكمة الكامنة في الداخل، حيث يوجد كل ما يؤرق إنسان هذا العصر المضطرب جنباً إلى جنب أدوات شفائه من أوجاعه الروحية والعقلية والجسدية والنفسية.
كان يأمل جبران أن يفرغ في هذا الكتاب زبدة اختباراته في الحياة البشرية من المهد إلى اللحد، مثلما كان يأمل أن يشاركنا الكلمة السر التي لم يتوقف عن التفتيش عنها طوال حياته، لكنه رحل قبل أن ينهي هذا المشروع «الثلاثية» الذي ضم «حديقة النبي» و«النبي» و«موت النبي» - والأخير لم ير النور - ورغم ذلك يبدو ما قدمه لنا مثالياً، فلسفياً، اجتماعياً وتأملياً في آن، حيث بحث من خلاله في شؤون المجتمع والحياة متحدثاً عن المحبة أساس الأرض، والزواج الذي يجب أن يعكس الاستقلال والتعاون والمساواة، والأبناء الذين يمثلون الغد وأحلامه، والمجتمع الذي نظر إليه بتفاؤل في ظل القانون المتطور بعيداً عن الفكر البالي، فهو ديناميكي متحرك، يسهم كل فرد من أفراده في تغييره وتطويره.
يقول جبران «إن ما ترغبون فيه أو تخشونه، وما تهوونه أو تمقتونه، وما تسعون إليه أو تتهربون منه، إن كل هذه مقيمة فيكم» وهو ينبهنا بذلك إلى أن الدوافع مقيمة في لا وعي الفرد، وهي مسؤوليته وحده في أن يسبر أغوارها ويفهمها ويوجهها لخدمة نفسه ومجتمعه وصنع تاريخه، وتلك من أعظم الأسباب التي يجب أن تدفع الفرد للتأمل في داخله، والتفكير في قيمه وتحديدها، ودراسة نقاط قوته وضعفه، وتحويل كل ذلك إلى أسلحة يواجه بها الغث الذي أصبح سمة من سمات المنصات التي يرتبط بها في يومه وليله، وتحقيق ذلك يحدث ببلوغ مستوى من الوعي بالذات لا يمكن أن يتم دون قراءة وتدبر وتفكير وتخطيط وتطبيق ومراقبة يومية لما نحدثه من تأثير في حياتنا وحياة الآخرين.
عن الكاتب
المزيد من الآراء
مقالات أخرى للكاتب
قد يعجبك ايضا
