تعاون إيراني - تركي رغم كل شيء

05:10 صباحا
قراءة 4 دقائق
تشهد العلاقات التركية - الإيرانية تطوراً مطرداً، رغم ما يبدو من خلافات بين البلدين . الزيارات على أعلى مستوى تنشط بين الجانبين كل في اتجاه الآخر . الخلافات القائمة حول الموقف من سوريا وبدرجة أقل من العراق، لم تمنع استقرار العلاقات وتطورها بين القطبين الكبيرين في الإقليم وكلاهما قطب إسلامي التوجه .
قبل نحو 3 سنوات ومع بدء موجة "الربيع العربي" بدت شقة الخلاف واسعة بين أنقرة وطهران . الأولى وقفت بلا تحفظ مع هذا التحول، والثانية رحبت بتحفظ بانتظار ما ستؤول إليه التطورات الداخلية في كل بلد، وما إن وصلت الموجة إلى سوريا، حتى أخذت أنقرة موقفاً مؤيداً، فيما اعترضت طهران على هذا التطور واعتبرت أن سوريا يجب أن تكون مستثناة من هذا التحول الداخلي .
المواقف من الوضع في العراق لم تكن أقل تباعداً . فطهران تؤيد حكومة المالكي في جميع سياساتها، بينما تتعامل أنقرة مع بغداد من منظور الهاجس الكردي، فلا تتوانى أنقرة عن مطاردة حزب العمال الكردستاني في إقليم كردستان، وتقوم في الوقت ذاته بتوقيع اتفاقيات في مجال الطاقة بمئات ملايين الدولات مع حكومة أربيل، وفي الحالتين من وراء ظهر الحكومة المركزية في بغداد . ومسألة الأكراد لا تبدو محل انشغال بينهما، فبينما تعتبر طهران أنه لا مشكلة تتعلق بأكراد إيران ولا حقوق قومية خاصة بهم، فإن أنقرة تجمع بين المقاربة الأمنية والاعتراف بالحقوق الثقافية لهؤلاء .
الخلافات التي طفت على السطح بين طهران وتركيا بشأن الأزمة السورية لم تؤد إلى تدهور العلاقات بين الجانبين، ومن المفارقات أن مسؤولي البلدين كانوا يختارون عاصمة الطرف الآخر خلال الزيارات المتبادلة بينهما لإعلان الموقف من مجريات الأزمة السورية، من دون أن يفسد ذلك أجواء التفاهم بينهما . مع اقتراب موعد "جنيف 2" ثم انعقاده تناغم الموقفان الإيراني والتركي حول تعزيز فرص التحول إلى حل سياسي .
في هذه الأثناء شكل التفاهم الغربي - الإيراني حول الملف النووي مناخاً جديداً أسهم في زيادة التقرّب بين أنقرة وطهران، علماً بأن حكومة أردوغان كانت تتهم من الغرب بأنها تلعب دور المحامي عن طهران في هذا الملف، خاصة أن أنقرة تحرص على استقلال نسبي عن السياسات الغربية . في هذه الأجواء أعلن عن تشكيل مجلس أعلى للتعاون بين البلدين خلال الزيارة التي أداها أردوغان إلى طهران في يناير/ كانون الثاني الماضي، والتعاون يشمل المجالات السياسية كما الاقتصادية، وقد اتفق على أن يعقد المجلس الأعلى بالتناوب في عاصمة البلدين .
إلى ذلك تجمع البلدين مصالح تجارية واقتصادية واسعة، فإيران بلد النفط والغاز وتركيا بلد الصناعات والتصدير والاستثمارات والسياحة، ورفع العقوبات جزئياً عن إيران سوف يتيح مزيداً من الفرص لكلا البلدين .
وبينما بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 20 مليار دولار في العام ،2013 فإن تنامي العلاقات بين البلدين يثير توقعات بأن يبلغ حجم هذا التبادل 30 ملياراً في العام المقبل 2015 .
وهكذا فإن كلاً من البلدين يدرك الحجم الهائل لمصالحه تجاه البلد الآخر، والاختلاف بينهما حول سوريا والعراق يحسّن من فرص التقارب بينهما لا العكس . وذلك من أجل دفع كل طرف لمراعاة المصالح السياسية للبلد الآخر وأخذها في الاعتبار، واستيعاب الخلافات ووضعها تحت سقف تفاهمات كبيرة تتمثل في احترام مكانة الطرف الآخر وخصوصيته . وعلى سبيل المثال فإن إيران تدرك جيداً مكانة تركيا لدى الأغلبية المسلمة في العالم العربي من الطائفة السنية، فيما تدرك أنقرة مدى النفوذ الذي باتت تتمتع به طهران لدى الطائقة الشيعية في العراق ولبنان ودول أخرى .
هكذا يتبدى وفي ضوء خبرة التحديات التي واجهت علاقات الجانبين في الأعوام القليلة الماضية، وقدرة الطرفين على استيعاب الخلافات وتطويعها بما لا يضر بمصالحهما، إن هذه العلاقات مرشحة لمزيد من النماء والتطور في المستقبل القريب .
أين العالم العربي من ذلك؟
تركيا وإيران تختلفات وتتفقان سياسياً وبالدرجة الأولى حول الوضع في بلدان عربية من العراق إلى سوريا ولبنان . ننتقد إيران ونلوم تركيا في هذا الموضع أو ذاك ازاء هذه القضية أو تلك، لكن كلا البلدين يملآن في واقع الأمر فراغاً عربياً على مستوى العمل الجماعي، كما على مستوى "قيادة" العالم العربي .
أمثولة التعاون التركي - الإيراني تحفز على بناء علاقات عربية مع هاتين الدولتين الجارتين الكبيرتين بما يلبي المصالح والحقوق العربية هنا وهناك .
حتى مع نشوب خلافات مع هذه الدولة أو تلك . وقبل ذلك فإن الفراغ السياسي في المنطقة العربية هو ما يشجع الآخرين على ملئه على طريقتهم ووفق مصالحهم المباشرة والاستراتيجية . . والطبيعة تكره الفراغ!
لقد تراجعت قيم العمل الجماعي العربي وبهتت صورة الجامعة العربية، وتعاظمت الرؤى والحسابات الخاصة بكل بلد عربي، وغابت الأولويات القومية العامة، وانهمكت شرائح من المجتمعات العربية في العراق ولبنان واليمن وسوريا وليبيا في التناحر الدموي فيما بينها، وأصبح استنزاف الموارد البشرية والطبيعية وإضعاف الاقتصاد حقاً مكتسباً وسلوكاً مقبولاً لشرائح اجتماعية، وأمام هذا التقهقر تنجح إيران وتركيا برغم خلافات سياسية وإيديولوجية فيما بينهما في تعظيم مصالحهما الثنائية، وفي عقلنة هذه الخلافات وفي النتيجة في تقاسم النفوذ في العالم العربي . . فهنيئاً لنا .

محمود الريماوي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"