مصر.. الدولة الأمة

02:49 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. مصطفى الفقي

لن أغوص مع القارئ في تفسير المصطلحات أو تحديد الفروق بين الدولة والوطن والشعب والأمة، فالدولة تعبير دستوري له طابع قانوني، والوطن تعبير عاطفي له طابع أدبي، والشعب تعبير سلوكي له طابع اجتماعي، أما الأمة فهي تعبير جامع مانع يحتوي دولة أو دولاً، ووطناً أو أوطاناً، وشعباً أو شعوباً، فكلمة الأمة ذات مدلول ثقافي ومؤشر حضاري يتجاوز بالضرورة الفروق الفرعية والتفاصيل الجزئية، إن الأمة تعبير إنساني رفيع يعني حداً أدنى من التجانس الثقافي والانصهار الاجتماعي والتلاحم الإنساني، فإذا كانت مصر تنتمي ثقافياً بالتاريخ والجغرافيا للأمة العربية فإنها في ظني يمكن أن تنهض أيضاً وحدها باستحقاق واضح لتعبير الأمة، وعندما رفعت الثورة الشعبية عام 1919 بقيادة سعد زغلول تعبير (الأمة المصرية) كانت مستحقة له مرتبطة به، وقد كنت أتحرج وأنا ابن جيل تربى على مدارج القومية العربية وعاش في مضارب العروبة فكراً وثقافة وسياسة من استخدام تعبير الأمة المصرية وكنت أراه خصماً من الانتماء العروبي لهذا الوطن، وذات يوم كنت أتابع (التلفاز) الذي كان ينقل الاحتفال الرسمي بتنصيب العماد إميل لحود رئيساً للبنان منذ قرابة عقدين من الزمان ووجدته يستهل خطابه بتوجيه الحديث إلى (الأمة اللبنانية)، وعندها قلت لنفسي (رفِعَ الحرج وتوقفت الحساسية واستراح سعد زغلول في قبره)! فتعبير الأمة المصرية مجاز في التاريخ والواقع معاً، ولا يتعارض بالضرورة مع انتماء أكبر للأمة العربية أو الأمة الإسلامية أو المنظومة العالمية، ولعلي أطرح دوافعي لطرق هذا الموضوع من خلال النقاط التالية:
أولاً: اكتسب تعبير الأمة دلالات ذات خصوصية حتى أصبح مرجعها في القرن العشرين هو مفهوم (الأمة الألمانية) كما ورد في فكر (نيتشه) من خلال حديثه الذي وجهه إلى أمته هو وغيره من الفلاسفة الألمان، خصوصاً أولئك الذين تحمسوا للفكر النازي وأصابتهم نزعة (شوفينية) تؤدي إلى إعلاء قومية بعينها على غيرها وتعطي إحساساً بالتفوق لجنس بذاته، ولا شك أن هذا المفهوم العنصري لمفهوم الأمة هو أبعد ما نفكر فيه، وليس وارداً في خاطرنا ونحن نتحدث عن مفهوم الأمة بمدلولها العصري ومعناها الصحيح، فالأمة كيان إنساني يتفاعل مع غيره ولا يعيش بالاستعلاء أو بمنطق العزلة، والأمة المصرية تحديداً تفاعلت عبر التاريخ بحكم موقعها الجغرافي والحضارات التي تعاقبت عليها وتفاعلت معها وتجاوبت مع تأثيرها أخذاً وعطاء بلا استغراق في (شوفينية) ذاتية أو عنصرية حمقاء.
ثانياً: لا تستطيع كل الدول أن تتحدث عن أنها أمة إذا افتقدت التجانس السكاني والانصهار القومي، لذلك فإننا نرى أن تعبير الأمة لا ينطبق تماماً على دول مثل الولايات المتحدة، أو حتى جمهورية الهند بسبب التعددية الزائدة وغياب روح الاندماج الكامل، فالديانات واللغات والأعراق حين تتباين فإنها تؤثر سلباً في مفهوم الأمة.
ثالثاً: إن المفهوم المصري لتعبير الأمة إنما ينبع من التاريخ الطويل والحضارات المتعاقبة التي تأثرت وأثرت في مصر، حتى أصبح الشعب المصري سبيكة فريدة، أصولها متعددة ولكن نسيجها واحد، فمصر دولة قادرة على امتصاص التقاليد، فضلاً عن قدرتها على استيعاب العناصر الوافدة إليها وصهرها في بوتقة واحدة ينتهي بها المطاف إلى الشخصية المصرية كما نعرفها.
رابعاً: إن المصريين حين رفعوا شعارهم التاريخي في الربع الأول من القرن الماضي وهو شعار (مصر للمصريين)، كانوا يرددون ذلك في سياق مقاومة الاحتلال ورفض الوجود الأجنبي، وليس موقفاً عاماً منهم تجاه كل الشعوب أو كافة الأجانب.
خامساً: لقد ذكر الرئيس عبدالفتاح السيسي في إحدى خطبه الأخيرة أن مصر تبدو وكأنها (شبه دولة)، وهي بالطبع عبارة صادمة، ولكن الرئيس كان يقصد منها تصوير الحالة المتردية التي وصل إليها الاقتصاد الوطني، بعنصريه الإنتاج والخدمات، كما كان يريد أن يوضح حالة التجريف التي تعرض لها الوطن المصري في العقود الأخيرة، وفي ظني أن اللجوء إلى تعبير الأمة المصرية هو مخرج طبيعي من أجل بناء الدولة وتقوية دعائمها والخروج بها من عنق الزجاجة والمأزق الذي تعيش فيه، بفعل تراكم الأخطاء وتعدد المشكلات والأزمات المحيطة بها.
إن (الأمة المصرية) تعبير أدعو إليه وهو لا يتناقض مع عروبة مصر ولا دياناتها، بل ينسجم مع تاريخها ويتواءم تماماً مع عبقرية الزمان والمكان والسكان!!

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"