المسكوت عنه في ملف سد النهضة

04:37 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي
منذ أسابيع قليلة تلقيت دعوة من معهد البحوث والدراسات الاستراتيجية لدول حوض النيل بجامعة الفيوم، حملها لي الدكتور عدلي سعداوي عميد ذلك المعهد الفريد في تخصصه، برعاية من الدكتور خالد إسماعيل حمزة رئيس الجامعة، وكان موضوع الندوة يدور حول قضايا ومشكلات نهر النيل، وجرى انعقادها في أحد فنادق محافظة الجيزة غير بعيد عن طريق الفيوم الصحراوي، وقد دعيت لترؤس الجلسة الأولى للمؤتمر، والتي استغرقت أكثر من خمس ساعات متصلة، وقد حضر الجلسة عدد كبير من الشخصيات المرموقة وخبراء نهر النيل، يتصدرهم شيخ وزراء الري الدكتور محمود أبو زيد رئيس المجلس العربي للمياه، ومعه وزيران سابقان للري أيضاً هما الدكتور حسين العطفي والدكتور حسام مغازي، مع مجموعة متميزة من خبراء القانون الدولي والشؤون الإفريقية وبعض السفراء السابقين، إضافة إلى الأبناء اللامعين لمدرسة الري المصرية. وقد طرحت في تلك الجلسة رؤى وأفكار تستحق الاهتمام بكل المعايير، خصوصاً أن الرئيس عبدالفتاح السيسي يتحرك في القارة الإفريقية بصورة تعيد الحيوية إلى الدور المصري، ويكفي أن نتذكر أنه قد زار في شهر واحد أوغندا وإثيوبيا وكينيا زيارات منفصلة، تشير إلى اهتمام مصر بدول حوض النهر اهتماماً مستمراً، وليس مجرد استعراض موسمي يرتبط بمناسبة معينة ثم يتوقف بعدها.
وإذا كان موضوع سد النهضة قد وضع ملف مياه النيل في مقدمة الملفات على مكتب الرئيس، إلا أن ذلك لا يعني أن مصر تسعى فقط لحل مشكلة راهنة، أو الخروج من أزمة طارئة، لأن موقف القاهرة يتأسس على عدد من المحاور يحسن أن نشير إليها وأن نتوقف عندها:
أولاً: إن القضية الحقيقية ليست في بناء سد النهضة من عدمه، ولكنها تتركز حول حصة مصر من مياه النهر، فنحن لا ننكر على الأشقاء في إثيوبيا السعي نحو إقامة سد يسهم في تنمية البلاد، ولكن الذي يدهشنا هو أن ذلك السد الذي يحتجز أربعة وسبعين مليار متر مكعب، يتجاوز بكثير الهدف المعلن لتوليد الطاقة الكهربية أو حتى استزراع مناطق جديدة تحت الهضبة، فالمقلق حقاً أن هذا السد له أهداف سياسية واقتصادية أخرى، فهو يؤدي إلى شراكة دول من خارج دول الحوض في مياه النهر بتدفق المياه على مساحات مزروعة لصالح تلك الدول البعيدة عن المجرى والمصب، ولكنها تلوح باستثماراتها الزراعية هناك في إثيوبيا والسودان بصورة تنقل المياه داخل المحاصيل المستزرعة، غير مكترثين بتأثير ذلك في معدل تدفق مياه النهر إلى مصر، وهي عملية التفاف واضحة لنقل مياه النيل لدول ليست داخل حوضه. وهنا يكمن جوهر المشكلة؛ فبناء السد محاولة لتحويل جزء من حصة مصر في المياه إلى كهرباء ومحاصيل زراعية لدول أخرى، أي أنها عملية ملتوية لتصدير مياه النيل من إحدى دول المنبع على حساب دول المجرى والمصب، وذلك إجحاف بحقوق تاريخية في المياه ومسيرة طبيعية للنهر.
ثانياً: إن هناك بدائل أمام دول حوض النهر يمكن أن تجعل الجميع رابحين. إذ إن معظم مياه النهر مهدرة دون استغلال، ويمكن أن يتشكل من دول الحوض مجلس أعلى لإدارة مياهه يجري من خلاله توزيع مياه النهر وفقاً لحاجات دوله وحجم سكانها ودون تفرقة بين دول المنبع والمجرى والمصب، فالنهر وحدة طبيعية متكاملة لا يستأثر فيها طرف بمزايا على حساب أطراف أخرى، كما أن هناك مقترحات بناءة وأفكاراً إيجابية يمكن أن تحقق فائدة للجميع، مثل تنفيذ الطريق البري من أعالي النيل إلى شاطئ المتوسط، لفتح منفذ لدول الحوض، وفي مقدمتها إثيوبيا والسودان للانفتاح على أوروبا تجارياً وثقافياً، من خلال الموانئ المصرية بإمكاناتها الضخمة وكفاءتها العالية، أي أن التفكير قليلاً خارج الإطار التقليدي، يمكن أن يسمح بتوليد أفكار جديدة تزيد في معدلاتها على توليد الكهرباء المزعومة، بحيث نخلق شبكة مصالح تؤدي إلى شراكة حقيقية بين دول النهر على نحو يحقق الخير للجميع.
ثالثاً: إنني أهيب بالأشقاء العرب، خصوصاً في منطقة الخليج بتوجيه النصيحة إلى أشقائنا في أعالي النهر، لكي يدركوا أن خنق مصر عن طريق المياه أمر مستحيل؛ لأنها، كما قال الرئيس السيسي - في مؤتمر الشباب الأخير - مسألة حياة أو موت، خصوصاً أن في مياه النهر ما يكفي دول الحوض ويسهم في تنميتها وازدهار شعوبها، وذلك بدلًا من الأفكار الضيقة والنظرات المحدودة التي قد تنطوي أحيانًا على نوع من الكيدية السياسية، نتيجة أوهام، منها أن التحكم الفردي في مياه النهر سوف يؤدي إلى إضعاف مصر، وكأن مصر سوف تستجيب لما يجري دون أن تحرك ساكناً. ويكفي أن نتذكر أن «إسرائيل» قد عرضت على مصر الوساطة في موضوع سد النهضة، وهو أمر يشير هو الآخر إلى أن مياه النيل هي حلم لكثير من الدول للخروج من أزماتها، وتحقيق أهدافها على حساب مئة مليون مصري!
إن المسكوت عنه في موضوع سد النهضة هو ذلك الغموض الذي يكتنف بناء ذلك السد تمويلًا وإدارة وحماية، لذلك فنحن نطالب الآن باتفاق جماعي يحل محل (إطار عنتيبي) أو يعدله على نحو يكفل العدالة المطلوبة للجميع، إننا نعترف - كما قال الرئيس المصري أمام البرلمان الإثيوبي - بحق إثيوبيا في التنمية، ومن جانبهم عليهم أن يعترفوا بحقوقنا في مياه النهر الذي عشنا به ومعه، حارساً للحياة ومتدفقاً بالمياه، وشاهداً على التاريخ!
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"