جهنم صناعة بشرية أيضاً!

02:34 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسن العديني

‫‎‎‬في بوابة الجحيم كتب دانتي في «الكوميديا الإلهية» يقول«تخلوا عن أي أمل أيها الداخلون هنا»، فكان أشد قسوة من الكتب المقدسة التي تركت فسحة للنجاة أمام الذين ارتكبوا المعاصي واحتفظوا بالإيمان بالله واحداً منزهاً. فالعذاب الأبدي يتنافى مع عدل الرب كما في سفر التثنية، وفي يوحنا وأرميا فإن فكرة العذاب الأبدي لا يمكن أن تخطر على بال ، وأما القرآن فقد فتح آمالاً بالخلاص من مثوى النار إذا بقيت قلوب مقترفي الآثام مطمئنة بالإيمان.
وليس دانتي وحده الشاعر الذي يبطش بالمذنبين فقد سبقه فارس الشعر العربي الأول أبو العلاء المعري في «رسالة الغفران» وحشر أضرابه من الشعراء والمتكلمين في جهنم بدءاً بطرفة بن العبد وبشار بن برد حتى تأبط شراً. وكما سيصطحب دانتي الشاعر الروماني فرجيل في رحلته إلى السماء كان أبو العلاء أخذ معه ابن الفارح الذي سيسمع من عمرو بن كلثوم «حينما يكون الشعر تفتح أبواب الجحيم». إن جحيم المعري ودانتي هو خيال الشاعر وعبقرية الفيلسوف الذي يسقط الصورة الدينية على الحياة الدنيا حيث جهنم تلاحق الشاعر باعتباره وجهاً آخر لبرومثيوس سارق النار. أما جان بول سارتر فيلسوف الوجودية اليسارية فيرى الجحيم في الآخرين.
لكن هناك غير شطحة الخيال جحيم حقيقي في الحياة الحاضرة صناعة بشرية. وكما هي جهنم درجات تنتهي بالدرك الأسفل، فإن الجحيم البشري مستويات ذروتها الحروب. وقد بدأت الحروب بين بني الإنسان على الكلأ والماء في غزوات القبائل ضد بعضها بعضا. ومع الانتقال من البداوة إلى الاستقرار ظهر نوع آخر هو الصراع الطبقي، ثم تلازم القومي والطبقي في صراعات وحروب مريرة شهدها تاريخ الإنسانية، وهي في مرات كثيرة تختبئ خلف أستار من العقائد والأوهام أبشعها تلك التي ترتدي ثوب الدين والامتياز العرقي. وقد عانت البشرية منها في أزمنة مديدة، أشدها ضراوة الحروب الدينية في أوروبا.
وكانت كذلك بالفعل في مظهرها وجوهرها، على عكس حروب عديدة غطت المطامع الاستعمارية ببراقع الكتب المقدسة، مثالها الحروب الصليبية حيث غزا ملوك أوروبا الشرق تحت راية المسيحية، لكنهم لم يفعلوا ذلك في ذهابهم إلى العالم الجديد إذ عبروا الأمواج دون رايات أو أعلام سوى الطمع المكشوف بالذهب والثروة. والمثال الثاني الأخطر والأشد ضراوة أن الحركة الصهيونية جلبت اليهود من أرجاء العالم وراء وعد زائف كتبه الحاخامات منسوباً إلى من يعتبرونه إلههم الخاص وربهم المحتكر، وبمساعدة القوى الدولية قامت «إسرائيل» قاعدة استعمارية تقصم ظهر الأمة العربية وتمنع تقدمها.
تحيي «داعش» اليوم نوعاً آخر من الحروب الدينية، فتحمل راية الجهاد ضد الكفار مستوحية عقيدة سيد قطب الذي يحصر المسلمين في الجماعة المنظمة المكلفة بمجاهدة المجتمع الجاهلي.أما الحوثيون في اليمن فيقدمون النموذج لنوع العلاقة الغامضة والملتبسة مع إيران.
هناك دمار مخيف للبنى التحتية بل ودمار كامل للمدن تعطي صورة حلب نموذجها، فهذه المدينة لا يبدو أنها قابلة لإعادة البناء، والأيسر منه إقامة مدينة أخرى لسكانها وإبقاء الأطلال شاهداً على حضارة دفنت. هناك ثانياً: مئات الآلاف صرعهم الرصاص وفتكت بهم القنابل، وهناك ملايين من المعاقين والمشوهين والمشردين. هناك ثالثاً: مجاعة خطيرة بل موحشة في اليمن بالذات، وقد نشرت منظمة «اليونيسيف» مؤخراً أرقاماً عن مجاعة الأطفال، لكن الحقيقة أن الشعب اليمني كله سوف تضربه مجاعة حادة في وقت قريب. فالدولة كانت الموظف الأكبر وربما الوحيد، وحتى القطاع الخاص يشتغل مع الحكومة في المقاولات والتوريدات، ومع انهيار الدولة وهروب التجار بأموالهم ارتفعت مستويات البطالة، وأخيراً جمدت رواتب موظفي الحكومة والشركات العامة وأصيبت الحياة الاقتصادية بشلل كامل. مقابل هذا تشترى القيادات الحوثية القصور الضخمة والسيارات الفارهة بينما تفرض ميليشياتهم الإتاوات على أصحاب الدكاكين والمحلات الصغيرة.
هناك رابعاً: أطفال ينشأون في أجواء الرعب معرضة حياتهم النفسية للخطر ومهددة عقولهم بالتبلد وأجسادهم بالمرض، وهناك خامساً النسيج الاجتماعي الممزق وخطر تمزيق الدول إلى دويلات وكانتونات صغيرة. ثم هناك سادساً وسابعاً وأكثر منه من المآسي التي تجعل الإجابة عن السؤال المفتوح مرعباً.
فهل الجحيم حقاً هم الآخرون حسب سارتر، أولئك الذين يصنعون فينا الموت أم هم نحن الذين نسهم في قتل أنفسنا وتدمير أوطاننا ؟. وهل ثمة أمل في الخروج أم أن دانتي يمنعنا ويحرمنا من الخلاص؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"