جنون الماضي وألق المستقبل

05:29 صباحا
قراءة 3 دقائق

لنتخيًل مراقباً عاقلاً ومتزناً ينظر، بموضوعية تامة وبلا أية مجاملة، إلى الأحداث التالية:

في بلد عربي هناك خبر إيقاف زواج طفلة في سن التاسعة . إن كل كتب علم النفس وكل تجارب الإنسانية تقول إن ممارسة الجنس مع الأطفال تؤدي إلى جراح وعلل نفسية تبقى معهم طوال حياتهم وتحرمهم من فرح وطمأنينة براءة الطفولة . غير أنه، وبالرغم من تحذيرات علماء النفس والدروس التي تعلمتها البشرية، توجد في ذلك البلد وفي غيره جهات ومنابر علنية تحلل شرعاً، بل وتشجٍع علناً، الزواج من فتيات صغيرات لا حول لهن ولا قوة لرفض ما يعرض عليهن . لا توجد الدولة التي تحمي ولا القوانين التي تعاقب ولا المجتمعات التي ترفض وتقاطع، ويظل الموضوع غير محسوم لا في الثقافة الفقهية ولا في الثقافة العامة .

في بلد عربي تقوم ثورة شعبية من أجل الديمقراطية . لكن ما إن يمر الوقت حتى تنزلق تلك الثورة لتصبح سوق نخاسة تبيع وتشتري فيها الدول الأجنبية المتصارعة، وقوى الجهاد التكفيري العبثي المبتذل، وسفهاء أصحاب الثروات الذين يقحمون أنفسهم وثرواتهم في لعبة الموت والدمار، وانتهازيو ألعاب السياسة المعارضون، وعبيد نظام الحكم الذين لا يرف لهم جفن وهم يرون البلد يحترق ويتفتت . وتكون النتيجة المفجعة أن بلداً كان ملء العين والبصر قد اصبح أرض اليباب ومقبرة للمسالمين الطيبين من أبنائه .

في بلد عربي يتوقف تصدير نفطه منذ أربعة أشهر بسبب الصراعات القبلية والجهوية وبسبب ارتهان الدولة، مؤسسات ومواطنين، من قبل ميليشيات مافوية أنانية تفضّل تدمير الوطن وإنهاء وجوده على أن تتنازل قيد أنملة عن مصالح وهلوسات وجهالة قادتها .

في بلد عربي، كان مرشحاً منذ أربعين سنة لينتقل من صفوف البلدان النامية ليصبح ضمن تصنيف البلدان المتقدمة، ينبش أطفاله الآن في براميل الزبالة ليحصلوا على بقايا طعام يسدون به رمق جوع عائلاتهم . هذا البلد كان يفاخر بأنه اقترب من إنهاء الأمية بين شعبه لتصل نسبة الأمية اليوم في ربوع أرضه الممزقة المدمّرة المنهوبة إلى أكثر من ثلاثين في المئة، وليضطرأطفاله للعمل لإنقاذ شرف أم أرملة بلا معيل، وأخت لا تأمن على عفتها في شوارع مدنها التي تشهد يومياً موت العشرات في جنون لعبة تفجير السيارات المفخخة وأحزمة شباب الجهاد التكفيري الضائع المشترى من قبل هذه الجهة أو تلك .

في بلد عربي تجتمع أحزاب الحكم وأحزاب المعارضة وكثير من مؤسسات المجتمع المدني أياماً وليالي لتختار شخصية حيادية نظيقة من أجل تأليف حكومة انتقالية لتجري انتخابات نزيهة . لكنها لا تستطيع أن تجد من بين الملايين من مواطنيها شخصية واحدة، نعم واحدة، يتفق عليها الجميع .

في بلاد العرب تبتلع الصهيونية ماتبقى من أرض فلسطين بينما تتصارع القيادات على ما يرمى إليها من فتات .

في بلاد العرب لم تستطع جامعة الحكومات العربية أن تطفئ حتى ولا ناراً مشتعلة واحدة، ولم يستيقظ بعد ضمير أحد ليدعو ولو إلى اجتماع قمة واحدة للخروج من الجحيم الشيطاني الذي تعيشه أمتهم يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة .

في بلاد العرب تتحارب الأديان والمذاهب والإيديولوجيات، لا من خلال الحوار وقبول الآخر، ولكن من خلال الإعلام الغامز الشاتم وإشهار واستعمال السلاح القاتل .

في بلاد العرب ينتشر وباء الحزن والضياع والحيرة بين الجموع ما يجعل الحياة عبثاً والموت عبثاً .

ماذا سيقول ذلك المراقب المحايد العاقل وهو يشاهد حفلات وجنازات الجنون تلك؟

سيذكّرنا أولاً بقول ألبرت آينشتاين من أن الجنون: هو عمل الشيء نفسه مرات ومرات مع توقع الحصول على نتائج مختلفة .

أو سيذكرنا بقول الفيلسوف نيتشه من أن الجنون بين الأفراد أمر نادر، لكن انتشاره بين الجماعات والملل والأمم هو القاعدة .

نحن إذن أمام محنة جنون السياسة والثقافة والفقه المتخلّف . وفي الحال يطرح السؤال التالي نفسه: هل ما نراه حصاد ثورات وحراكات الربيع العربي؟

والجواب هو كلا وألف كلا، ليس في تلك المشاهد السود، وبالرغم مما تدعيه أبواق الثورات المضادة، ذرة من وجود وألق شباب أو روح ثورات وحراكات الربيع العربي .

ما نراه هو بقايا علل وهلوسات وانفصامات جنون القرون الطويلة وهي تلفظ آخر وجودها في النفس العربية الجديدة المتعافية، وما على شباب وحراكات الربيع العربي إلا إبعاد أنفسهم، كأفراد ومؤسسات، عن ممارسات جنون القرون الماضية تلك، وعن كل من ابتلوا بذلك الجنون، فالمستقبل لهم طال الزمن أو قصر .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"