هدنة في الحرب التجارية الأمريكية الأوروبية

03:37 صباحا
قراءة 3 دقائق
د.غسان العزي

لقد أضحى أسلوب الرئيس ترامب في التعامل مع الآخرين، حلفاء كانوا أو خصوماً، واضحاً. فالرجل يمتهن سياسات حافة الهاوية إذ يلجأ إلى التهديد والتصعيد قبل أن يبعث بإشارات تنم عن رغبة بالحوار بحثاً عن اتفاقات جديدة. إنه سعي للتفاوض من موقع قوة بغية الحصول على ما يناسبه من صفقات لمصلحة «أمريكا أولاً».
في تعامله مع الأوروبيين وصلت الأمور إلى حد وصفه لهم ب«الأعداء» في إحدى التغريدات. ولم يتردد في تطبيق قراره رفع التعرفة الجمركية على الصلب والألمنيوم الذي فتح حرباً تجارية مع العديد من دول العالم منها الاتحاد الأوروبي الذي رد بإجراءات انتقامية.
في ٢٤ يوليو/تموز الفائت غرد ترامب بلهجة تصعيدية واعداً بالاستمرار في الضغط للحصول من الأوروبيين على كل ما يريد. في هذا الوقت كانت طائرة الوفد الأوروبي برئاسة رئيس المفوضية الأوروبية جان-كلود جنكر تطير إلى واشنطن للاجتماع بالرئيس ترامب وفريق عمله التجاري في البيت الأبيض. كان الأمل ضعيفاً بل منعدماً حول إمكانية التوصل إلى أي اتفاق. لكن الصحفيين أصيبوا بالذهول عندما فاجأهم ترامب بالإعلان عن اتفاقه مع الأوروبيين على هدنة تجارية والشروع بمفاوضات تقود إلى إلغاء تام للرسوم الجمركية والعقبات غير التعرفية بين ضفتي الأطلسي بل وتحالفهما داخل المنظمة العالمية للتجارة بغية إصلاحها، وهو «إصلاح» موجه ضد الصين في حقيقة الأمر.
اعتبر جان-كلود جنكر نفسه منتصراً لأنه حصل من ترامب على تأجيل لموعد فرض رسوم جمركية جديدة على السيارات الأوروبية، وهو تأجيل يبقى قائماً طيلة أمد المفاوضات التي ستبدأ قريباً بين الطرفين، الأمر الذي يرضي الأوروبيين لا سيما ألمانيا، التي يستهدفها ترامب في تهديداته التجارية، والتي وصفت مباحثات واشنطن ب«البناءة».
في اليوم التالي للاتفاق أعلن ترامب الانتصار وقال خلال زيارة لمزرعة كبيرة في ايووا: «لقد فتحنا أوروبا أمامكم أيها المزارعون». ورأى وزير الزراعة ويلبور روس في هذا الاتفاق «تبريراً حقيقياً لسياسة الرئيس ترامب التجارية» في مواجهة شركائه.
تراجع ترامب عن التصعيد التجاري حصل تحت ضغوط شركات السيارات الأمريكية وبعض الشركات الصناعية الأخرى، مثل ويرلبول ودافيدسون، التي انخفضت مبيعاتها بسبب الحرب التجارية، وضغوط أصوات بدأت تخرج من صفوف الحزب الجمهوري عشية الانتخابات النصفية للكونجرس، لاسيما في المناطق الزراعية في ميدوست التي أصابتها الضربات الانتقامية من قبل الصين والمكسيك اللتين فرضتا الرسوم على العديد من المنتجات الزراعية الأمريكية. لذلك أعلن ترامب، في ٢٤ يوليو/تموز الفائت، عن مساعدات بقيمة ١٢ مليار دولار للمزارعين، وهم الأكثر تضرراً من حروبه التجارية.
لا بد من الإشارة بأن الهدنة بين الطرفين لم تتضمن التراجع عن قرار ترامب زيادة الرسوم الجمركية على الصلب والألمنيوم وعن إجراءات الاتحاد الأوروبي الانتقامية المقابلة. جل ما اتفق عليه الطرفان هو الشروع في مفاوضات تهدف إلى إلغاء العقبات التجارية بينهما في مقابل تعهد الأوروبيين بشراء المزيد من الغاز المسيل والصويا من الولايات المتحدة وتعهد هذه الأخيرة بالتوقف عن المزيد من الإجراءات الحمائية المضرة بالأوروبيين.
لكن في الحقيقة لا يستطيع هؤلاء الوفاء بالتعهد المذكور، فتجارة الصويا لا يقررها اتفاق سياسي بقدر ما تخضع للتنافس التجاري العالمي ولقدرتها التنافسية والكميات التي يحتاجها المستهلكون الأوروبيون الذين لن يستهلكوها لمجرد إرضاء مزارعي الميد وست الأمريكيين. كذلك فاستيراد كميات كبيرة من الغاز المسيل الأمريكي يحتاج إلى بنى تحتية كبيرة في أوروبا حيث يتم استيراد الغاز الروسي عبر أنابيب موجودة منذ زمن طويل.
من جهة أخرى، لا ينظر الأوروبيون بعين واحدة إلى المفاوضات مع الأمريكيين والاتفاقات التي قد تنبثق عنها. فالرئيس ماكرون، على سبيل المثال، كان ينتظر «تراجع واشنطن عن الرسوم الجمركية غير القانونية التي فرضتها على واردات الصلب والألمنيوم من أوروبا كشرط مسبق لأي تقدم ملموس»، ذلك أن «المفاوضات التجارية الجيدة لا يمكن أن تقوم إلا على قواعد متوازنة ومتبادلة وليس أبداً تحت التهديد» كما قال من المكسيك. من جهته طالب برونو لومير وزير الاقتصاد الفرنسي بإبقاء الزراعة خارج حقل المفاوضات، وذلك في رده على ترامب الذي أعلن أن الأوروبيين سيستوردون المزيد من الصويا الأمريكية.
هل تصمد هذه الهدنة التجارية الأمريكية الأوروبية وتؤسس لعلاقة جديدة بين الحلفاء، أم أن ترامب سيكرر ما سبق وفعله مع الصين التي أعلن عن هدنة معها قبل أن يباشر في اليوم التالي حرباً تجارية حقيقية ضدها بعد تعرضه لانتقادات من الرأي العام ومستشاريه المقربين؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"