الشعب الفلسطيني كطبيب وفيلسوف

05:17 صباحا
قراءة 3 دقائق

في حقل الطب يعرف الطبيب الممارس الحاذق متى يتوقف عن الأمل في شفاء مريضه. فعندما تكثر دلائل الانهيارات في الوظائف التي يفترض أن يقوم بها مختلف أعضاء الجسد يعرف الطبيب أنه أمام أمرين: فإما أن يترك المريض يموت أو يغيّر بصورة جذرية عنايته بمريضه.

في الفلسفة هناك المدرسة السقراطية التي تصرّ على طرح الأسئلة والتفتيش عن الحقيقة مهما كانت النتائج التي ستوصل إليها تلك الأسئلة ويقود إليها ذلك التفتيش الشجاع.

الشعب الفلسطيني، ومن ورائه أمته العربية، مطالب في هذه اللحظة بأن يكون ذلك الطبيب الذي يجب أن يحسم أمر الحالة المرضية التي تلفظ أنفاسها بين يديه، وأن يكون ذلك الفيلسوف الذي يصرّ على طرح الأسئلة مهما قادته إلى كوابيس الحقيقة المؤلمة المرّة.

مشهد حركة فتح وهي تجتمع تحت مراقبة وحراب الاحتلال وضمن شروطه له دلالات مرضيّة ويحتاج إلى طرح الأسئلة بشأنه. فأن تجتمع الجمعية العمومية لحركة نضال تحرري ثوري بعد توقف وغياب دام عشرين سنة، فهذا دليل صارخ على انهيار مفجع في البنية الداخلية وفي الوظائف وفي الفاعلية في الحياة السياسية الفلسطينية. وهذا الانهيار، متمثل في عوارض ألف علّة وعلّة من التنازلات الوطنية المرعبة في أوسلو وما بعد أوسلو ومن قلّة الحيلة أمام العدو، ومن تغلغل الفساد المالي والذممي ومن الاستزلام الأمني لما تمليه أمريكا وما يصرّ عليه الكيان الصهيوني ومن الرضوخ لرغبات السلطة بدلاً من أن يكون العكس.

إن هذا الانهيار يستدعي ولادة مولود جديد غير مشوه ومعافى أو انقلاب الحركة على ذاتها انقلاباً يؤدي إلى علاج كل عللها وإلى انبعاث حيويتها التاريخية. وهنا دعنا نكن واقعيين،

ذلك بأن أسنان السلطة منغرسة في أوردة وشرايين الضحية التي تنزف بغزارة وتتقيح شيئاً فشيئاً.

في ضوء تلك الصورة البشعة، تُطرح الأسئلة السقراطية المفتّشة عن الحقيقة بصدق وبشجاعة. ما الذي يراد من حركة فتح، الفصيل الأكبر في الساحة الفلسطينية، أن تمرره لكي يصبح غطاء لتنازلات جديدة يصرّ عليها الكيان الصهيوني وتتبناها الولايات المتحدة الأمريكية الجديدة عملياً وتقبلها مع الأسف أطراف عربية ضالعة في لعبة خطرة؟ هل اجتماع بيت لحم هو بديل عن التفاهم الفلسطيني الفلسطيني وإعلان عن نهاية الثورة ومفاهيم التحرر والمقاومة وتسليم مفاتيح فلسطين إلى محتليها وسجّاني شعبها؟ هل حقاً أن من فشل في انتزاع ذرة واحدة من حقوق شعبه خلال مفاوضات عبثية تنازلية يحقّ له الحصول على تفويض جديد؟ أليس الكلام المضحك المبكي عن المطالبة بفتح تحقيق دولي بشأن تسميم ومقتل المرحوم ياسر عرفات، وذلك بعد خمس سنوات من الجريمة، دليلاً كافياً على أن الجدية في دوائر اتخاذ القرار الفلسطينية قد اندثرت منذ زمن طويل؟ وبالتالي ما الذي يجب أن يُعمل لإرجاع الجدية وإبعاد الهازلين المتعبين من الساحة الفلسطينية التي تشوّهت حتى لم يعد بالإمكان التعرف إلى ملامحها وتقاطيع وجهها؟

ثم، هل تريد الحركة التي من وراء السلطة أن تستمر الأخيرة في الابتعاد عن الشعوب العربية والارتماء التام في أحضان بعض الأنظمة العربية المتخلّية عن إبداء أية مقاومة تجاه العدو الصهيوني ومسانديه؟ وهناك ألف سؤال وسؤال تحتاج إلى الطرح والحصول على الجواب.

من المؤكد أن الشعب الفلسطيني يعرف جيداً أن قضيته يراد تحويلها إلى جثة لا تفوح منها سوى روائح الموت، وهو يعرف مصدر السكاكين والجراثيم التي تكالبت على الجسد الفلسطيني، الذي كان مثال القوة والحيوية والعنفوان في ما مضى. إنه الآن، في يومنا هذا، في لحظتنا التاريخية المفجعة هذه، في ظروف مؤامرة هائلة دولية تحاك ضدّه لتنهي وجوده التاريخي والقومي، مطالب بأن ينتقل من وضح الحائر المنتظر الصابر إلى وضع الطبيب والفيلسوف معاً، فيجابه الموقف ويتوصّل إلى إجابات مقنعة. إن الزمن ضده وعليه أن يخرج من سباته.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"