«الاستثناء» التونسي

04:54 صباحا
قراءة 5 دقائق
الحسين الزاوي

شكل فوز اللجنة الرباعية للحوار الوطني في تونس بجائزة نوبل للسلام، مفاجأة سارة لكل الأطراف السياسية المدنية في تونس، التي عملت على حماية واحتضان الحوار المجتمعي التونسي من أجل التوصل إلى اتفاق سياسي يضمن لتونس انتقالاً ديمقراطياً سلساً، ويجنبها تبعات الصراعات العنيفة التي ما زالت تعايشها دول ما يسمى ب«الربيع العربي».
وقد اعتبر البيان الذي أعلنت عنه الناطقة باسم الجائزة، أن اللجنة الرباعية قدمت مساهمة مصيرية في بناء ديمقراطية تعددية، الأمر الذي يعني أن القائمين على جائزة نوبل أرادوا أن يوجهوا رسالة مشفرة إلى كل الوطن العربي من أجل العمل على دعم نشاط جمعيات المجتمع المدني التي من المفترض أن تقود الحوار المجتمعي ما بين كل الأطراف والفاعلين السياسيين على اختلاف انتماءاتهم الإيديولوجية، حيث ضمّت اللجنة الرباعية التونسية كلاً من الاتحاد العام التونسي للشغل، وهو من بين أعرق وأنشط النقابات العمالية في الوطن العربي، والاتحاد التونسي للصناعة والحرف والصناعات اليدوية، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ونقابة المحامين التونسيين.
وعليه فإنه وبالرغم من التاريخ اليساري لمعظم الأطراف المشكلة للجنة إلا أنها استطاعت أن تصل إلى صياغة توافق مقبول ما بين وجهات نظر الطرفين الرئيسيين في المعادلة السياسية التونسية، والمتمثلين في الاتجاه الليبرالي الذي تقوده حركة نداء تونس من جهة، والاتجاه المحسوب على تيار الإسلام السياسي ممثلاً في حركة النهضة من جهة أخرى.
الانتصار التونسي الأخير وعلى رغم رمزيته الكبيرة والقوية بالنسبة لمجموع الشعوب العربية، فإنه لا يجب أن يجعلنا نغفل حقائق أساسية لا يمكن تجاوزها أو القفز عليها، فما يسميه التونسيون ب«الثورة» ما زال يمثل في واقع الأمر مساراً غير مكتمل وإنجازاً هشاً، يمكن القول إنه مهدد من قبل كل أشكال التراجعات الممكنة، كما تشير إلى ذلك الكثير من القراءات السياسية والإعلامية الخاصة بالمشهد التونسي، فالمجموعات السلفية و«الجهادية» ما زالت تصر على رفضها لهذا المسار التعددي، وتحلم بإدخال المرأة التونسية المتحررة إلى «بيت الطاعة» وبتأسيس دولة على نموذج التنظيم الإرهابي في العراق والشام من أجل إرجاع التونسيين والتونسيات إلى عهود القهر ومجتمع الحريم.
ونستطيع أن نستنتج في هذا السياق، أن القائمين على جائزة نوبل أرادوا أن يعيدوا شيئاً من الحيوية والنشاط إلى مسار التعددية في تونس، الذي بدأ يتراجع قليلاً نحو الوراء نتيجة للتحديات الأمنية التي باتت تفرضها القوى المتطرفة، التي تنشر الخراب والدمار في مناطق عديدة من الجغرافيا العربية المترامية الأطراف.
ويمكننا القول أيضاً، أن الجائزة جاءت لتثمن عالياً تمسك الأغلبية الساحقة من التونسيين بفضائل الحوار المجتمعي، ورفضهم لكل أشكال الحلول المتطرفة والإقصائية التي يمكنها أن تقود المجتمع نحو مواجهة شاملة، لاسيما وأن الشعب التونسي معروف بثقافته السلمية وبرفضه للخيارات العنيفة.
لا شك في اعتقادنا أن لجنة جائزة نوبل للسلام لجأت من خلال اختيارها لنموذج التجربة التونسية، إلى اعتماد خيار تمييزي، ولكنه خيار تمييزي بالمعنى الإيجابي للكلمة، يهدف إلى المساعدة في دعم وترسيخ قواعد الديمقراطية التونسية ودفع مسار تطورها إلى الأمام، من أجل تحقيق المزيد من المكاسب لفئات الشعب التونسي، التي لا تزال تنتظر بفارغ الصبر أن تنعكس هذه التحولات السياسية الجديدة بشكل إيجابي على واقعها الاقتصادي والمعيشي.
لكن هذه الخطوة التي تمثل خطاباً سياسياً موجهاً إلى عموم المنطقة العربية، يجب ألا تدفعنا إلى إسقاط عناصر داخلية وإقليمية كان لها تأثير حاسم في استقرار المجتمع وفي ديمومة المسار السياسي السلمي في تونس.
نزعم أن من أهم العناصر التي ساهمت في استقرار التجربة التعددية التونسية وفي محافظتها على طابعها الحداثي هو الدور المحوري الذي لعبته وما زالت تلعبه المرأة التونسية، التي انتفضت بقوة من أجل الدفاع عن المكاسب الليبرالية التي حققتها في المرحلة البورقيبية بعد الاستقلال، وهو الإصرار الذي جعل الكثير من المحافظين وفي مقدمهم جماعة حركة النهضة الإسلامية، يتراجعون عن اعتماد قرارات كانت تسعى في بداية الأمر إلى إعادة النظر في المكاسب الأساسية والثمينة التي حققتها المرأة التونسية خلال العقود الماضية.
العنصر الآخر الذي كان له دور حاسم في تحقيق هذا النصر التونسي المؤزّر تمثل في الميراث الإصلاحي التونسي، الذي يعود إلى مرحلة خير الدين التونسي الذي جعل المؤسسة الدينية التونسية تعتمد في أدبياتها وخطاباتها على خيارات دينية منفتحة على آفاق العصر بعيداً عن التوجهات الدينية المتشددة، الأمر الذي انعكس إيجاباً، حتى الأحزاب الإسلامية في تونس وفي مقدمها حركة النهضة، التي تصفها مثيلاتها من الحركات الإسلامية العربية الأخرى بأنها «مفرِّطة»، فقد اهتم خير الدين باشا بالتعليم وبنشر الوعي بين التونسيين، وأسس المدرسة الصادقية التي كانت بمثابة منارة إشعاع ثقافي وحضاري بالنسبة لتونس، حيث زاوجت هذه المدرسة ما بين التعليم الديني وتعليم اللغات الأجنبية والعلوم الحديثة، وسعى خير الدين في السياق نفسه إلى إصلاح التعليم في جامع الزيتونة، وكانت لمجموع هذه الخطوات الجريئة آثار إيجابية في أجيال من خريجي المدارس والجامعات التونسية، وأسهمت في وضع اللبنات الأولية لمجتمع متطور متفتح على قيم الحداثة والعصرنة.
ونستطيع القول في السياق نفسه إن دول الجوار الإقليمي كان لها دور غير مباشر في دعم خيار التعددية والاستقرار في تونس، فقد أراد التونسيون أن يتجاوزوا حالة الفوضى التي عمّت في ليبيا بعد سقوط نظام القذافي، واستحضروا بطريقة إيجابية التجربة المأساوية التي عايشتها الجزائر في تسعينات القرن الماضي، وفضلاً عن ذلك فقد قبل التونسيون بوساطة الجزائر التي لعبت دوراً إيجابياً في دعم مسلسل الحوار بين أطراف الصراع في تونس، من خلال نشاط السفير الجزائري في تونس عبد القادر حجار، الذي كانت له نشاطات دبلوماسية مكثفة مع أطراف المعادلة السياسية التونسية، ومن خلال المساعي الحميدة للرئيس الجزائري الذي استقبل زعيمي حركة نداء تونس وحركة النهضة الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي في سياق زيارات مكوكية قادتهما إلى الجزائر من أجل تقريب وجهات نظر الفريقين السياسيين الرئيسيين المتصارعين على السلطة في تونس.
وعندما نتحدث في هذه العجالة عن «الاستثناء» التونسي ونضع كلمة استثناء بين مزدوجين، فإننا لا نعني بذلك التشكيك في هذا الإنجاز التونسي الكبير في مجال التجربة الديمقراطية في الوطن العربي، وإنما نسعى من خلال هذا الفعل الإجرائي إلى التنبيه إلى أن الممارسة التعددية تمثل مساراً استثنائياً يحتاج إلى رعاية مستمرة من قبل كل الأطراف، لكي لا تنتكس التجربة الوليدة وتسقط في دوامة الفوضى والعنف، وحتى لا تنحرف نحو مسار مظلم من الشمولية الدينية التي تسعى إلى إعادة النظر في كل مكاسب المجتمع التونسي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"