ثلاثون عاماً على سقوط جدار برلين

02:48 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي

في التاسع من نوفمبر /‏ تشرين الثاني 1989 سقط جدار برلين، ومعه انتهى نظام دولي ثنائي القطبية أنتجته الحرب العالمية الثانية. التفاؤل عم العالم أجمع بنهاية «حرب باردة» تسببت بمقتل ملايين البشر عبر حروب بالوكالة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وانتشرت نظرية فرنسيس فوكوياما التي تنبأت ب «نهاية التاريخ» وانبلاج عهد جديد لا تسوده الحروب والصراعات. وبالفعل فقد عرفت صراعات دولية عديدة نهاية سعيدة لها، وسارع الأوروبيون إلى الاتحاد، كما استعادت ألمانيا وحدتها، وأخذت دول المعسكر الشيوعي تدخل تباعاً في اقتصاد السوق.
ولكن حرب البوسنة (1992-1995) جاءت لتدحض نظرية فوكوياما، وتبرز قناعة صموئيل هنتنجتون عن «صراع الحضارات» المقبل، والذي أريد من تفجيرات سبتمبر 2001 أن تكون فاتحة له، بعد أن انتشرت فكرة «التهديد الأصولي الإسلامي» الذي يحل محل التهديد الشيوعي السابق في صفحات بحوث وتقارير مؤسسات العصف الأمريكية ذات النفوذ العالمي. وهكذا دخل العالم في «حقبة غياب اليقين» أي التهديد الإرهابي الذي يختلف عن التهديدات التقليدية في أنه عصي على التوقع وغير مرئي ولا ينطلق من مكان معين معروف، ويستخدم وسائل غير تقليدية. هذا التهديد شكل ذريعة لعدوانية المحافظين الجدد الذين وصلوا إلى السلطة مع بوش الابن والذين سارعوا إلى اجتياح أفغانستان، ثم العراق في مرحلة أولى من مخطط للسيطرة على النظام الدولي كما أعلنوا وكتبوا.
في أوروبا الشرقية والوسطى تعرفت الشعوب إلى الديمقراطية والانتخابات الحرة، لكن الوجه الآخر للعملة كان التفاوت الاجتماعي الذي تسبب به الدخول المتسرع في اقتصاد السوق. ومن نتائج ذلك هجرة الشباب إلى أوروبا الغربية بحثاً عن مستوى معيشة أفضل، الأمر الذي أصاب ديموغرافيا بلدان أوروبا الشرقية بالكهولة، ومنع تجديد النخبة وتسبب بصعود الحركات الشعبوية في أوروبا الغربية
على المستوى الاقتصادي، إذا كان سقوط جدار برلين قد أسهم في المزيد من الانفتاح بين الدول، وقيام تجمعات اقتصادية إقليمية عديدة في العالم (ما سمي بالأقلمة) والمنظمة العالمية للتجارة وغيرها، إلا أنه فتح المجال أمام قيام «جدران» جديدة بين الدول التي استفادت من خيرات العولمة، وتلك التي اعتبرت نفسها من ضحاياها، فضلاً عن الأزمات المالية التي ضربت بلداناً عديدة مثل اليابان في عام 1993 أو آسيا الجنوبية - الشرقية ثم روسيا في عام 1997، وصولاً إلى الأزمة الكبرى التي انطلقت من الولايات المتحدة في عام 2008 لتصيب شظاياها اقتصادات العالم أجمع..
جدران التفاوت الاقتصادي الهائل ارتفعت في العالم أجمع بين الدول وفي داخل كل منها. ومن نتائج هذا التفاوت تقدم الأحزاب والحركات الشعبوية ولا سيما اليمينية المتطرفة منها، والتي وصلت إلى السلطة أو اقتربت منها في غير بلد في العالم.
بعد انهيار جدار برلين دخل العالم في ديناميتين متناقضتين في الآن نفسه. فمن جهة أخذت دول وجماعات تقترب من بعضها البعض وصولاً إلى الاتحاد والتحالف، ومن جهة أخرى تحركت جماعات عرقية وقومية للانفصال عن الكيانات التي تنتمي إليها، وتسبب ذلك بالمزيد من الصراعات والحروب. جدران كثيرة شيدت بين هذه الجماعات في داخل الدول وفي ما بينها. تشييد مثل هذه الجدران بات «موضة دولية» دشنتها «إسرائيل» ببناء الجدار العازل مع الفلسطينيين في الضفة الغربية، وعلى الحدود مع لبنان.
الاتحاد الأوروبي يعاني من الوهن، وتتصاعد فيه الأصوات الداعية إلى إعادة الحدود التي أزالتها معاهدة شينجن بين دوله، وحلف الأطلسي بدوره يعاني «شللاً دماغياً» بحسب تصريح الرئيس ماكرون، مؤخراً، بفعل الخلافات بين دوله، وتخلي راعيه الأكبر الولايات المتحدة عنه. والأمم المتحدة التي استفاقت لبرهة غداة سقوط جدار برلين عادت إلى سباتها بفعل «الفيتو» الذي يعطل عمل مجلس الأمن الدولي.
بعد ثلاثين عاماً على سقوط جدار برلين لا يبدو العالم أفضل مما كان عليه. جدران جديدة اقتصادية واجتماعية وسياسية تنتصب في كل يوم بين أركانه، ليغدو أشبه بالأرخبيل، أي عبارة عن جزر متباعدة بين الأثرياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء، والحكام والمحكومين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"