«كامب ديفيد»

01:34 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. يوسف الحسن

}} تحضرني أمكنة كثيرة من الذاكرة، حينما أتحدث عن «معسكر ديفيد» أو منتجع «كامب ديفيد»، الواقع في منطقة جبلية مملوءة بالغابات والطبيعة الساحرة، في ولاية ماريلاند الأمريكية.

}} ومن بين هذه الأمكنة، التي ما زالت تُزهر في الذاكرة، والتي اعتدت قضاء بعض أوقات الراحة فيها أو الاستزادة المعرفية في تاريخها وسكانها وطبيعتها، أثناء إقامتي في واشنطن دي سي... أمكنة ذات دلالات ورمزية راهنة أو تاريخية، مثل منطقة «لانكستر» في ولاية بنسلفانيا، حيث يعيش أناس فيها يسمَّون «أميش» «Amish»، وهم جماعات مسيحية متدينة، تتبع مُصلحاً مسيحياً عاش في سويسرا في أواخر القرن السابع عشر، وهاجر أتباعه إلى أمريكا، وأبرز ما يميز هذه الجماعات، هو أنها مسالمة، ومعفاة من العمل في الجيش، وأنها تعيش حياة يومية بسيطة، ولا تتعامل في معيشتها مع جميع منتجات الحضارة المعاصرة، وهي لا تستعمل السيارات، ولا الكهرباء، ولا التلفزة ولا الثلاجة.. إلخ . وتكتفي بتعليم أبنائها في الكنيسة القراءة والكتابة والحكمة الدينية، وتستخدم في تنقلاتها العربة التي تجرها الخيل، وتأكل مما تزرعه في حقولها.. إلخ.
}} وتملك فلسفتها الخاصة في العيش والحياة، ومما شاهدته في زيارتي لبعض بيوتهم ومزارعهم، أنهم يتمتعون بصحة وعافية عالية المستوى، وتبدو على سحنهم السماحة والجمال الطبيعي، والبساطة في الملبس، والسلوك، والرضا والقناعة.
}} ومن الأمكنة أيضاً التي تستحضرها الذاكرة، وما زالت حية في ذاكرة الأبناء، رغم مرور أكثر من ربع قرن على أسفارنا وزياراتنا لها، مدن ألعاب «والت ديزني» في «أورلاندو» ولوس أنجلوس.. هذه المدن المدهشة، التعليمية والترفيهية للصغار والكبار، والمملوءة بالفرح والفرجة البريئة والإبداعية.. والتي أنشأها في عام 1955، المخرج والقاص والمبدع الإنساني (والت ديزني) هي مدن للحلم والسلام مع الذات ومع الآخر، مدن للفرح الصافي.
}} وكنا، حينما تشتد حرارة الطقس، في صيف واشنطن، نبحث عن مرتفع أو منتجع جبلي، لقضاء بضعة أيام بصحبة الأطفال.. ومن هذه الأمكنة، جبال شنندواه (Shenandoah) في ولاية فرجينيا، والتي لا تبعد عن واشنطن دي سي بأكثر من سبعين ميلاً. وكثيراً ما شاهدنا في ساعات الصباح الأولى قطيعاً من الغزلان تتقافز بين الأشجار، بالقرب من الفندق.
}} وحينما حضر الرئيس المصري الأسبق إلى محادثات «كامب ديفيد»، والتي توّّّّجت صلحاً منفرداً بين مصر و«إسرائيل»، احتل هذا المنتجع - المعسكر، مكاناً في قائمة الأماكن التي ننوي زيارتها.
}} لقد ارتبط اسم هذا المنتجع في ذهني، بهذه الاتفاقية - المعاهدة السيئة السمعة، التي وُقعت في البيت الأبيض في سبتمبر/أيلول 1979، والتقيت قبيل توقيعها مع الدبلوماسي المصري أسامة الباز، والصديق الدبلوماسي عبد الرؤوف الريدي، في فندق (ماديسون) بواشنطن، وهما من كبار مستشاري الرئيس المصري في ذلك الوقت، وقالا لي: «إن الرئيس السادات لا يستمع لأحد من مستشاريه، طوال مدة التفاوض في كامب ديفيد». وقرأت فيما بعد ما قاله الرئيس الأمريكي كارتر في مذكراته: «إن السادات، لم يكن يحب وجود مساعديه ومستشاريه معه عندما كان يجتمع مع (كارتر)، في وقت كان فيه (بيغن) يعتمد اعتماداً كبيراً على مساعديه ومستشاريه».. ويبدو أن الرئيس المصري الأسبق كان يعتقد أنه يستطيع أن يحوِّل الذئب «الإسرائيلي»، إلى حمل وديع، بمجرد أن يعزف له قطعة من الموسيقى، أو يقول له كلاماً حلواً عن السلام وانتهاء عصر الحروب!!
}} ظلت فكرة زيارة منتجع «كامب ديفيد»، على بالي أكثر من عام،.. وفي ذات يوم.. قررت الذهاب إلى هذا المكان، مستطلعاً معالمه، رغم ما يحمله هذا الاسم، من رمزية أو دلالة غير مريحة بالنسبة لي.
}} ولم تكن المسافة، ما بين منزلي في المنطقة الحدودية الواقعة ما بين واشنطن دي سي وولاية ماريلاند، وبين «كامب ديفيد»، تزيد على خمسين ميلاً.
}} وفوجئت بخلو هذا المنتجع من الفنادق أو المطاعم أو الاستراحات.. واقتربت كثيراً من بضعة منازل متقاربة وأنيقة، وسط غابة كثيفة من الأشجار، وحال دون تواصل جولتي في المنطقة، وجود حراسات أمنية واضحة، إلا أنها لم تكن شديدة في تلك الأزمنة، رغم وجود عدد من الإشارات التي توحي بأن هذه (الڤلل) من أملاك الحكومة الفيدرالية.
}} وقد أطلق على هذه الغابة في البداية، اسم (شانغريلا) وهو اسم مقتبس من رواية (جيمس هيلتون) المسماة (الأفق الضائع).
}} وبقي هذا الاسم شائعاً، حتى جاء الرئيس الأمريكي (أيزنهاور) فغيَّر اسم المنتجع إلى اسم حفيده (ديفيد) والذي كان عمره في ذلك الوقت (1960) نحو اثني عشر عاماً.
}} وقد استقبل الرئيس أيزنهاور في هذا المنتجع الرئيس السوفييتي الشهير (خروتشوف)، واعتبر هذا المكان، مثالياً لتخفيف التوتر العسكري والسياسي العالمي، وقد استعمله كل الرؤساء الأمريكيين فيما بعد.. وآخرهم الرئيس أوباما، حينما استقبل فيه قادة دول الخليج العربية في مايو/أيار الماضي.
}} وفي عهد الرئيس بوش الأب، أقام فيه حفل زفاف لابنته، كما جمع الرئيس كلينتون في هذا المنتجع، ياسر عرفات وإيهود باراك لمدة أسبوعين.
}} أما الرئيس الأمريكي بوش الابن، فكان يقضي فيه أكثر من ثلاثة أشهر في كل عام، وكان يستمتع بوجود أصدقائه معه، بعيداً عن السياسة.
}} أما الرئيس كلينتون، فقد كان يدعو إليه، نجوم السينما والفن.
}} في هذا المنتجع، الذي يرتفع عن مستوى سطح البحر أكثر من ألفي قدم ، أربعة نزل للضيوف وقاعات للرياضة ولعبة التنس والسباحة ومطار صغير للمروحيات وصالة كلاسيكية للطعام، وأخرى للاستراحة..
}} في منتجع الدبلوماسية الهادئة، هناك «خلوة» للتفكر، والسكينة والمصارحة.. وحل كلمات متقاطعة، في دفتر الشرق الأوسط الحزين. أمكنة كثيرة.. نستحضرها من الذاكرة، وقلة منها.. تبقى محفورة.. ولا تغادرها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"