الانقسام في زمن الوباء

00:39 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

واهمٌ من يتخيل أن الأخطار يمكن أن توحد البشرية، وغافلٌ من يعتقد أن العالم يمكن أن يجتمع حول كلمة سواء، فالخلاف أصبح هدفاً والاختلاف وسيلة لتحقيق وهم التميز والتسيد على الآخر، وليس هناك دليل أقوى من كورونا. ولن تأتينا فرصة لاختبار مدى قدرتنا على توحيد جهودنا وكلماتنا وصرخاتنا دفاعاً عن حقنا في الوجود في مواجهة خطر يهددنا جميعاً من دون أن يفرق بين أبيض وأسود ولا غني وفقير ولا عالم وجاهل، مثل الفرصة التي نعيشها حالياً في مواجهة المراوغ اللعين كوفيد-19. 

 الفيروس لم يفرق، ولكننا نحن فرقنا، ونفرق، وسنفرق، وها هي دول أوروبا «المنكوبة» تتوعد بعضها بحرب لقاحات، بسبب نهج سياسة الأنانية، للاستحواذ على جرعات لقاح تتجاوز أضعاف أعداد السكان، وهو ما أوقع مخططي هذه السياسة في شر أعمالهم ليفضحوا أنفسهم أمام العالم، ولعل هذا ما دفعهم إلى إعلان التراجع والتوقف عن تبادل إطلاق الاتهامات واستبدال «حرب اللقاحات» ب«دبلوماسية اللقاحات»، وما هي إلا أسماء أطلقوها هم وشركاؤهم في الصراع. 

 أوروبا خاضت خلال هذه المحنة عدة حروب أو بشكل أدق صراعات، ولن ننسى شحنات الكمامات التي استحوذت عليها دول وهي في طريقها لأخرى، والغريب أن أموراً كثيرة غريبة حدثت على أرض قارة تعيش دولها تحت مظلة اتحاد تحكمه قوانين شبه موحدة، مع استثناء «الخارجين» بعد أن اكتشفوا أن الجنة الأوروبية يمكن أن تنقلب عليهم جحيماً، وها هي دول تعود لتغلق حدودها البرية في وجه أخرى، بل ومدن في وجه مدن مجاورة، بعد أن تفاقمت الجائحة وأجبرت معظم دول القارة على الإغلاق، لنجد دولة مثل هولندا تضطر للحظر وهو مالم تفعله منذ الحرب العالمية الثانية. 

 حتى الصين التي رفضت تحقيقاً دولياً في مصدر الوباء، فقد استقبلت مدينتها ووهان، باعتبارها منشأ كورونا، فريق الصحة العالمية للتحقيق، الأمر الذي تلقفته إدارة بايدن لاستغلاله سياسياً مستكملة ما سبقتها إليه إدارة ترامب، وقد يكون الملف الصيني هو الوحيد الذي تتفق فيه الإدارتان المتناقضتان داخلياً وخارجياً. 

 ومن النماذج التي قررت التعامل مع كورونا بنهج خاص كانت البرازيل التي تبكي اليوم دماً بعد أن تجاوزت الخيال في أعداد المصابين والموتى، ووصلت الكارثة إلى حد ضاقت فيه المقابر بضحايا الجائحة، والسبب هو سياسة رئيسها بولسونارو الذي ظل يشكك في الفيروس ويرفض الإجراءات الاحترازية حتى بعد أن نال منه شخصياً، وكانت النتيجة إعلانه مؤخراً إفلاس بلاده بسبب كورونا واندلاع مظاهرات غاضبة في أنحاء البرازيل مطالبة بتنحّيه. 

وكأن الفيروس في سباق مع العلم، فمع عودة الأمل باللقاحات المتعددة التي تمثل خلاصة جهود العلماء خلال العام المنصرم، ظهرت سلالات متحورة من الفيروس وبعضها أشد فتكاً لدرجة دفعت المختصين للتوقع بأن الولايات المتحدة ينتظرها إعصار كوروني من السلالات المتحورة، ورغم أن بايدن يجعل من نفسه نموذجاً يحتذى في الحرب ضد كورونا ولا يظهر على الشاشات إلا وهو متسلح بالكمامة، إلا أن الوباء لا يريد الاستسلام، ولا نستبعد مفاجآت جديدة منه بعد السلالات المتحورة التي انتشرت بشكل أسرع من الكوفيد الأصلي. 

 الأمل لن يموت والعلم سينتصر واللقاح سيؤتي أكله والدجالون السياسيون سيختفون قبل الوباء، وسيكون العالم أفضل بعد تجاوز هذه المحنة، التي ينبغي أن نخرج منها معرضين عن انقسامات أصحاب المصالح وواعين أن نمط حياتنا بعد كورونا لا ينبغي أن يكون كما قبله، وأن نحافظ على تباعد المسافات تفادياً لتناقل أي فيروسات؛ كذلك الحرص على النظافة وتغيير عادات التحية بما يقلل من مهرجانات القبلات التي تسيدت حياة بعض الشعوب، ولعل انخفاض الإصابة بالإنفلونزا العادية بنسبة 98 في المئة الآن هو الدليل على أن نمط الحياة بالإجراءات الاحترازية هو الطريق إلى السلامة من كورونا ومن غيرها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"