باكستان ومواعيد العنف

03:48 صباحا
قراءة 3 دقائق

في اللحظة التي يُنظر فيها إلى المواعيد الانتخابية في الديمقراطيات الغربية على أنها تمثل مناسبة للاحتفال بقيم المواطنة والسلم والمشاركة السياسية، فإن هذه المحطات السياسية باتت ترمز في باكستان إلى مواعيد يتأجج فيها العنف وتسيل فيها الدماء ويعمّ الخراب . فقبل أسابيع من تاريخ إجراء الانتخابات التشريعية في 11 من شهر مايو/أيار المقبل، تعيش القرى والحواضر الباكستانية أجواء مشحونة، تغذيها أطراف سياسية مختلفة على خلفية صراعات مذهبية وقبلية، أسهمت حتى الآن في مقتل وتشريد الآلاف من المواطنين الأبرياء .

وقد بدأت رائحة الموت تزكم الأنوف منذ عودة الرئيس الباكستاني السابق برويز مشرف إلى إسلام أباد، وإعلانه عن ترشحه لخوض غمار الانتخابات المقبلة؛ حيث سارعت حركة طالبان إلى تأكيد عزمها على إرسال مشرف إلى الجحيم، بحسب تعبير أحد قادتها . وتأتي عودة مشرف إلى البلاد بعد أربع سنوات من المنفى بعد أن وجّهت إليه العدالة الباكستانية مجموعة من التهم في مقدمها الضلوع في مقتل رئيسة الوزراء السابقة بنازير بوتو، وبالتالي فإن دم مشرف أضحى مطلوباً من جهات عديدة تريد الانتقام منه على خلفية ممارساته القمعية أثناء فترة حكمه، وإبان قيادته للجيش الباكستاني . وكان مشرف قد وصل إلى السلطة بعد قيامه بانقلاب عسكري سنة 1999 ، قبل أن يستقيل في صيف 2008 نتيجة للغضب الشعبي الذي تفجّر بعد اغتيال بوتو .

ويمكن القول إن هشاشة الحكم في باكستان وتراجع الثقة في حزب الشعب نتيجة للفضائح السياسية والمالية التي تحاصر الرئيس الحالي زرداري زوج بنازير بوتو من ناحية أولى، وضعف المعارضة الحالية وانقسام أقطابها من ناحية ثانية؛ هو الذي شجّع مشرف، المقرّب من الجيش والاستخبارات الباكستانية، على خوض الانتخابات، وذلك من منطلق أن المؤسسة العسكرية في هذا البلد، مازالت تمثل بالنسبة إلى قطاع واسع من الباكستانيين رمزاً للاستقرار والوحدة الوطنية، وبخاصة بعد أن بالغت جماعات الإسلام السياسي في استغلالها وتوظيفها للرموز الدينية ، فأساءت بذلك إساءة بالغة إلى المرجعية الإسلامية للدولة الباكستانية، وأضحت هذه الدولة الوليدة تعيش منذ سنوات عديدة أزمة هوية على مستوى تمثيلها لمرجعياتها وثوابتها الثقافية والحضارية .

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن التهديد بالقتل الذي قامت حركة طالبان باكستان بتوجيهه إلى مشرف، ليس الأول من نوعه، فقد سبق له أن تعرض لمحاولتي اغتيال فاشلتين عندما كان رئيساً للدولة، نتيجة لاتهامه من قبل مجموعات متشددة بتحالفه مع الولايات المتحدة وانخراطه في ما يوصف بالحرب على الإرهاب . وبالرغم من كل هذه الأخطار التي تحدق بحياته فإن مشرف لم يتردد في التصريح قبل سفره إلى باكستان، قائلاً بنبرة ملؤها الإصرار والتحدي: سأعود براً أو جواً أو عن طريق البحر، حتى وإن كلفني ذلك حياتي، إنه الالتزام الذي أخذته على عاتقي بالنسبة إلى بلدي . لا شك في أن قرار مشرف لم يأت مصادفة، ومن الصعب علينا أن نرى في هذه العودة مجرد مغامرة غير محسوبة العواقب، لكننا نجهل - حتى الآن - الأطراف السياسية التي قبلت أن تتحالف مجدداً مع هذا الجنرال المخلوع، ولسنا ندري أيضاً، إن كانت هذه العودة السياسية تدخل في سياق التحضير لمرحلة ما بعد انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان .

صفوة القول إن باكستان دولة وشعباً، مقبلة على مرحلة جديدة من العنف والتناحر الداخلي نتيجة للتركيبة المعقدة للمجتمع من جهة، وبسبب اتساع الفوارق الاقتصادية وعدم تكافؤ مستوى الوعي السياسي لدى المواطن من جهة أخرى؛ ومن نافلة الحديث أن نشير في هذا السياق، إلى أن ضعف المؤسسات المنتخبة وغياب الحكم الراشد، يجعل باكستان تبحث عن خلاصها من خلال المراهنة على الأفراد والشخصيات التي تملك كاريزما قوية، في اللحظة التي تواصل جارتها الهند مسيرتها في ترسيخ صورتها كأكبر ديمقراطية برلمانية في العالم، بالرغم من الفقر والفوارق الطبقية الكبيرة التي تهيمن على النسيج الاجتماعي الهندي . ونستطيع أن نزعم في هذا السياق أن باكستان في حاجة ماسة إلى إعادة صياغة تصوراتها المتعلقة ببناء الدولة الوطنية، لكي تصل إلى إقامة نظام سياسي تعددي، يحترم التنوع ويتقبّل الاختلاف، ويرسي دعائم ممارسة ديمقراطية قائمة على أسس قوية وجديدة، وإلا فإن الوحدة الوطنية للدولة ستكون مهددة بمجرد ضعف أو تراجع مستوى أداء الأجهزة الأمنية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"