صرخة استغاثة من أوروبا

04:13 صباحا
قراءة 4 دقائق
بدأ الحلم الأوروبي الذي راود مخيلة النخب السياسية والثقافية في هذه القارة خلال النصف الأول من القرن الماضي، يتراجع بشكل لافت، وشرعت أطراف أوروبية عدة في بث نداءات استغاثة من أجل انقاد صرح الاتحاد الذي اعتقد الرواد المؤسسون له، أنه يمثل حصناً منيعاً يمكنه مجابهة كل العواصف والتحديات؛ بيد أن الأزمات الاقتصادية المزمنة التي باتت تواجه هذه القارة، ما فتئت تثير في نفوس قطاع واسع من الأوروبيين موجة غير مسبوقة من الشك والريبة . ويؤرخ الفوز الباهر لقوى اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، لعهد جديد لعله يذكرنا إلى حد ما بصعود النزعات القومية في أوروبا قبل اندلاع الحرب الكونية الثانية، فباستثناء "الزوج" الألماني - الفرنسي، فإن فكرة الاتحاد بدأت تخبو في نفوس الأوروبيين، الذين أضحوا منقسمين إلى فريقين أساسيين: الأوّل معادٍ بشكل صريح للاتحاد ولمؤسساته في بروكسل، والثاني متشكك وغير واثق بمسار الإصلاحات التي تتبناها الدول الكبرى؛ بل إن فرنسا نفسها تبدو الآن غير قادرة على لجم اندفاع أتباع الجبهة الوطنية المتطرفة، الذين ينددون بما يصفونه استبداد القوى المالية أو الأوليغارشية المهيمنة على السياسة الاقتصادية للاتحاد .
تطورات الأحداث غير السارة في أوروبا تسارعت بشكل لافت للنظر، فقد هددت بريطانيا بالانسحاب من الاتحاد احتجاجاً على تعيين جان كلود جانكير على رأس المفوضية الأوروبية خلفاً لخوسيه مانويل باروزو، وجاء هذا التشنج البريطاني مباشرة بعد فوز القوى المعارضة لمسار الاتحاد في الانتخابات البرلمانية الأوروبية . وقد خلق كل ذلك أجواء متوترة بين الدول المؤثرة في رسم سياسات الاتحاد، حيث إنه وبالرغم من محاولة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إيجاد بعض التبريرات المقنعة للموقف البريطاني، إلا أن الأغلبية العظمى من الدول الأوروبية قالت إن السلوك البريطاني يمثل ابتزازاً للاتحاد، وأكدت في السياق نفسه أن هذا التصرف البريطاني ليس الأول من نوعه، فقد سبق للمملكة المتحدة أن ابتزت نظراءها الأوروبيين في مناسبات عدة، وما زالت حتى الآن ترفض الانضمام لاتفاقية شنغن وللعملة الأوروبية الموحدة اليورو . ويرى بعض المختصين في الشأن الأوروبي أن بريطانيا مازالت تصر على أن تُتخذ القرارات بالإجماع وليس بالأغلبية، وهي تتسبب بذلك في تقويض مؤسسات الاتحاد، بل وتسعى إلى إبقائها مشلولة وغير قادرة على الحركة بكل حرية، فبريطانيا لا تريد الاندماج بقدر ما تطمح إلى أن يظل الاتحاد سوقاً، وتبقى هي بالتالي مركزاً محورياً لسوق المال في المنطقة برمتها، فقد كانت التجارة ومازالت تمثل أحد الأسباب الرئيسة التي دفعت بالنخب السياسية في لندن إلى ولوج الاتحاد . ويضيف الخبراء الأوروبيون، أن المملكة المتحدة كانت ومازالت تُيَمِّم وجهها شطر الأخت الكبرى المقابلة لها في المحيط الأطلسي (الولايات المتحدة الأمريكية)، وتدعم نفوذها في وسط وشرق أوروبا، كما تسعى سعياً حثيثاً إلى توسيع الاتحاد ليضم أكبر عدد ممكن من الدول، بصرف النظر عن قدرة هذه الدول الجديدة على الالتزام بمعايير الانضمام . لكنها ترفض في المقابل، أن يتحول الاتحاد الأوروبي إلى تكتل سياسي قوي وقادر على مواجهة النفوذ الأمريكي في أوروبا، وبالتالي فقد عارضت بريطانيا في البداية اتفاقيات ماستريخت (1992) وأمستردام (1997) ونيس (2001)، ومازالت ترفض مجمل الإجراءات الهادفة إلى جعل الاتحاد يُؤثر بشكل مباشر في السياسات الداخلية للدول الأعضاء .
ويذهب محللون آخرون إلى القول إن جرأة البريطانيين في رفضهم للقرارات المصيرية للاتحاد الأوروبي، بات يهدد هذا الكيان الوليد بالموت على المديين المتوسط والطويل، فمن دون ديمقراطية حقيقية ستكون الشعوب الأوروبية عرضة لهيمنة الدول الغربية الكبرى، التي تريد أن تُقنع بقية الأطراف أن مصالح المجموعة تكمن في التوافق مع المطالب التي ترفعها القوى التقليدية الكبرى . هناك في كل الأحوال شعور ضاغط بالحرج، من طرف قسم كبير من دول الاتحاد، تجاه سياسات المملكة المتحدة، لكن هناك أيضاً - في السياق نفسه - إصرار من أجل ألا تتحول ألمانيا إلى ربان وحيد للسفينة الأوروبية، خاصة وأن هناك في اتجاه مقابل سعي محموم، يهدف إلى ترسيخ الشعور الحالي لدى دول شرق أوروبا، بالخوف من التهديدات المحتملة لروسيا، وهو شعور، نزعُم أنه يدعم بشكل كبير الخيارات المتصلبة للمملكة المتحدة داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي . ويبدو بناء على كل ما تقدم، أن معطيات التاريخ وهواجسه المقلقة ورهانات الجغرافيا السياسية، عادت مرة أخرى لتؤثر في المشهد الأوروبي بشكل لافت .
إن صرخة الاتحاد الأوروبي باتت مؤثرة ومقلقة في اللحظة نفسها، نتيجة عاملين رئيسيين: أولهما تزايد الفجوة الاقتصادية والمالية بين شمالي القارة وجنوبيها، ورفض الدول الغنية، أن تسهم بشكل أكبر في التخفيف من آثار وانعكاسات ديون الدول المتعثّرة على مسار تنميتها الداخلية؛ أما العامل الثاني فيتمثل في العودة الكبيرة للحركات القومية المتشددة، في لحظة تاريخية مفصلية اعتقد فيها الكثيرون أن الدول القومية في أوروبا باتت قاب قوسين أو أدنى من الزوال . وعليه فإن الأوروبيين في حاجة الآن، أكثر من أي وقت مضى، إلى تحقيق توازن موضوعي بين عناصر هويتهم القومية والوطنية من جهة، ومعالم ومكونات انتمائهم الحضاري لأوروبا التاريخية من جهة أخرى . أجل، لقد سبق أن كتب المفكرون الأوروبيون عن أزمة الوعي الأوروبي، في فترات سابقة، لكنهم باتوا يواجهون الآن تحدي المحافظة على كيان كان من المفترض أن يُشكل الرد الأمثل لكل شياطين الماضي، وتحديداً في هذه المرحلة التي تسعى فيها أطراف عدة إلى تحويل القارة إلى رقعة شطرنج كبيرة، من أجل كسب رهانات الألفية الجديدة .

د . الحسين الزاوي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"