علاقة سلطة الحكم بسلطة السوق

04:32 صباحا
قراءة 3 دقائق

منذ بدء الأزمة المالية - الاقتصادية العولمية قبل سنة والأسئلة تلو الأسئلة تطرح في العالم كله عن الأسباب، والنتائج المحتملة في المستقبل القريب والبعيد، والمعالجات الضرورية للخروج من هذا الجحيم. اليوم تبدو الصورة واضحة إلى حدٍ ما: إن ما حدث هو غياب مفجع للدولة وحضور مرعب للسوق.

فالدولة التي قامت في الأساس لاستعمال سلطتها الشرعية لحماية أفراد المجتمع ولضبط التوازن بين مصالح مختلف قوى ومؤسسات وأفراد المجتمع على أسس معقولة من عدالة توزيع الثروات المادية والمعنوية، هذه الدولة التي نجحت بعد الحرب العالمية الثانية في أن تكون دولة رعاية اجتماعية إنسانية لكل مواطنيها وجدت نفسها مهمشة شيئاً فشيئاً أمام الشركات العالمية العملاقة الكبرى وأمام مطالب المؤسسات الدولية من مثل منظمة التجارة وصندوق النقد الدولي وأمام فكر ليبرالي فوضوي متطرف جديد. كانت جميع تلك الجهات تلح على رفع يد الدولة عن عمليات المال والاقتصاد وترك ذلك لنظام السوق الحر القادر على ضبط أموره بنفسه من دون حاجة لوصاية من سلطات الدولة.

وكانت المحصلة سيطرة شبه كاملة على نبض الحياة في المجتمعات من قبل المهيمنين على المال والاقتصاد والتجارة، أي من قبل مؤسسة السوق. وأصبحت الدولة غير مستقلة عن السوق وبالتالي غير قادرة على ضبطه أو لجم تطرفه.

اليوم، يتحدث الكثير من الحكومات والكثير من المفكرين عن ضرورة فصل الدولة عن السوق وعن ضرورة عودة الدولة لضبط حركة السوق ولمنع المغامرين والجشعين والفاسدين من جرّ المجتمعات إلى وحل الأزمات. لكن المدخل الأساسي لكل ذلك هو ألا يكون رجال سلطة الدولة من المرتبطين بمؤسسات السوق وبالتالي ألا تتقاطع مصالحهم الشخصية مع المصلحة العامة. ذلك أن أحد أهم أسباب الأزمة المالية - الاقتصادية التي انفجرت في وجوه الجميع كان التشابك بين رجالات الحكم ورجالات السوق، فكانت النتيجة الفساد وعدم الشفافية وإغماض العين عن التجاوزات.

العالم اليوم يتجه كما يبدو نحو فصل سلطة الدولة عن السوق وضبط سلطة الدولة لحركة السوق. وهنا يبرز السؤال المحوري التالي: وهل بالإمكان تطبيق ذلك في الأرض العربية؟ فالكل يعرف أن الأغلبية الساحقة من رجالات الحكم والسلطة والإدارة العامة في البلاد العربية هم منخرطون في التجارة وفي الصفقات المالية وفي مضاربات الأسهم والعقارات وفي كل أنواع العلاقات الزبائنية الاقتصادية. فهل باستطاعة مثل هؤلاء أن يتماثلوا مع الآخرين في جعل الدولة أداة مراقبة وأداة ضبط قانوني صارم وأداة منع للامتيازات غير المعقولة وغير المبررة التي يحصل عليها من يديرون ويملكون عالم المال والاقتصاد؟ إن مثل هذا الضبط سيتناقض مع مصالحهم الشخصية وسيكون على حساب امتيازاتهم التي دخلت في صلب حياتهم العائلية والاجتماعية والإقليمية، فهل سيكون بمقدورهم أن يحكموا قيم وأخلاقيات المصلحة العامة على قيم الانطواء على الذات وما تجرّ إليه من أخلاقيات الأنانية والجشع وفساد الضمير؟

إن الطريق لحل تلك الإشكالية لن يكون سهلاً خصوصاً في ظل نظام سياسي يفتقد للأسس والمحددات الديمقراطية وعلى رأسها فصل السلطات واستقلالها عن بعضها البعض لتسهيل المساءلة التي هي ضرورية في الحياة السياسية والاقتصادية. ومع ذلك فسلطات الحكم في بلاد العرب يجب أن تتقي الله في نفسها وفي مجتمعاتها. ذلك أنه حتى لو ضبط العالم الاقتصادي أموره فإن الفقاعات الاقتصادية المحلية ستظل تنفجر في وجوهنا بين الحين والآخر والتشابك الضار بين السياسة والاقتصاد، وبين الحكم والسوق، وبين رجالات الحكم ورجالات المال سيستمر إلى أن نحل إشكالياتنا السياسية التي ستظل عائقاً أمام حل كل الإشكاليات الأخرى.

إن قدر العرب، وهم يعيشون أوضاعهم المأساوية الحالية الكثيرة، أن يبذلوا جهداً لا يقل عن ضعفي ما يبذله العالم ليخرجوا مع العالم من الأزمة العولمية التي تطال الجميع. لقد سمحنا عبر القرون لأنفسنا لأن نصل الى ضرورة حمل مثل تلك المسؤولية الثقيلة، ولكن مواجهة أقدار الأمة خير من الهرب من أمامها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"