الحلفاء المتصارعون

03:31 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

لو لم يُعقد الاجتماع الأخير لقادة حلف شمال الأطلسي (الناتو) لكان خيراً للحلف والقادة معاً. جرت وقائع اللقاء الاحتفالي بالذكرى السبعين لتأسيس أكبر وأقوى تحالف عسكري وسياسي في التاريخ، على مدى يومين ازدحما بالخلافات العلنية والانقسامات الحادة بين القادة الذين فشلوا في إظهار حد أدنى من التماسك ولو شكلياً. ولم يكن أسوأ من تفككهم سوى كلماتهم الحادة المتبادلة، بما فيها من تجريح شخصي لا يليق بالكبار.
بدأ الاجتماع على وقع أزمة فجرها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بإعلانه أن الحلف في حالة «موت دماغي». ووسط الضجة التي أثارها التصريح المباغت وردود الأعضاء الغاضبين جرى اللقاء. وكان طبيعياً أن ينتهي نهاية تليق بتلك البداية العاصفة، فلم يشأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن يدع المناسبة تمر دون وضع لمسته التقليدية بتفجير أزمة كعادته في اللقاءات المشابهة. ومن ثم غادر الاجتماع دون عقد المؤتمر الصحفي الختامي كما كان مقرراً.
وخلافاً للاجتماعات السابقة التي أحرج فيها ترامب ضيوفه أو مضيفيه، كانت لديه هذه المرة مبررات معقولة للغضب؛ أولاً من ماكرون ليس لأنه نافسه في إثارة الأزمات، كما علقت الصحف الغربية متهكمة، ولكن لأن انتقاداته الحادة للناتو لم تخل من انتقادات ضمنية للقيادة الأمريكية للحلف، وقرار ترامب بالانسحاب من شمال شرقي سوريا، والسماح بدخول القوات التركية. غضِب ترامب لسبب منطقي آخر هو سخرية قادة فرنسا وكندا وبريطانيا منه خلال حديث جانبي تم تسجيله خفية، وأذاعته وسائل الإعلام.
لم يقتصر رد الرئيس الأمريكي على إلغاء المؤتمر الصحفي؛ بل وجّه كلمات نارية لرئيس الوزراء الكندي، ونعته بذي الوجيهين. أما نظيره الفرنسي فكان قد أشبعه توبيخاً، رداً على تصريحه حول الناتو، واتهمه ترامب بإهانة الحلف «بتصريحات سيئة جداً»، ولم ينس أن يذكره بالأزمات الداخلية في فرنسا بما فيها ارتفاع معدل البطالة وتظاهرات السترات الصفراء، مؤكداً أن فرنسا هي أكثر من يحتاج للحلف.
انتقادات ترامب لماكرون سبقها فاصل آخر من الهجاء المتبادل بين هذا الأخير ونظيره التركي استخدم فيها الاثنان كلمات من العيار الثقيل غير المعتادة بين قادة الدول. وهكذا تحول اللقاء الاحتفالي للحلف إلى جبهات صراع مفتوحة بين الحلفاء أنفسهم، بدلاً من بحث التهديدات الخارجية.
كل تلك الخلافات كانت معروفة مقدماً، إلا أن المفاجأة تمثلت في مستوى الحوار بين القادة. وقد تحسب المنظمون لهذا منذ البداية وحاولوا تجنّبه، ولذلك لم يستخدموا تعبير «قمة»، للإشارة إلى الاجتماع تأكيداً لاعتباره تظاهرة احتفالية أكثر من كونه مؤتمراً رسمياً. ولم يتضمن البرنامج إلقاء بيان ختامي تجنباً لإثارة الخلافات، وخوفاً من أن يفعلها ترامب وينسحب مبكراً كما فعل في القمة السابقة.
نفس الخوف من مفاجآت ترامب المحرجة وغير المتوقعة كان الدافع لعقد الاجتماع في لندن وليس في واشنطن التي شهدت توقيع معاهدة تأسيس الحلف قبل سبعين عاماً. حتى اللقاء مع الملكة إليزابيث تم ترتيبه كحفل استقبال وليس عشاء عمل كما جرت العادة.
نسي المنظمون أن الاهتمام الأكبر كان ينبغي ألا ينصب على الترتيبات؛ بل على عقد جلسات عمل مغلقة بين الخبراء قبل اللقاء لتقريب وجهات النظر. ليس سراً أن الخلافات بين أعضاء الحلف أعمق من أن يتم حلها في لقاء عابر، وهي خلافات تتعلق برؤيتهم لدور الناتو، ومستقبل وطبيعة الارتباط بالأخ الأمريكي الأكبر.
وهذه النقطة الأخيرة تحديداً تثير انقساماً حاداً بالنظر إلى تمسك فرنسا وألمانيا بحلم الاستقلال الدفاعي عن أمريكا، وهو ما تعارضه بريطانيا ودول شرق أوروبا القريبة من روسيا، والخائفة من نزعتها التوسعية.
غير أن الاستقلال عن أمريكا يبقى أمنية أكثر منه خطة قابلة للتطبيق قريباً. وليس بوسع فرنسا أو ألمانيا الاستغناء على المظلة الدفاعية الأمريكية، وهو ما يعرفه ترامب تماماً؛ لذلك يطالب الشركاء الأوروبيين بفاتورة أكبر نظير خدماته الدفاعية، والمؤكد أنهم سيدفعون في النهاية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"