الصناعة قاطرة التنمية

00:05 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.مصطفى الفقي

إن استقراء تجارب الدول وصحوات الأمم ويقظات الشعوب يؤكد أن التصنيع كان البوابة الرئيسية التي عبرت بها تلك الدول إلى عالم التقدم وانطلقت إلى الأمام، نعم.. إن الزراعة من أقدم المهن على الأرض، ولكن الأمر الذي لا جدال فيه هو أن الصناعة هي المهنة الأهم في النهاية، لأنها تعني إعمال العقل والتعامل مع الآلة، وهو ما يعني الارتقاء بأساليب التفكير ومهارات اليدين. 

 حاولت مصر تجربة معروفة للنهضة الصناعية في عهد عبد الناصر وكان بطلها حينذاك هو الدكتور عزيز صدقي الذي أصبح في ما بعد رئيساً للوزراء والذي تندرت عليه الجماهير بلقب (أبو لمعة) بسبب الأرقام الكبيرة التي كان يطرحها في عصره كمؤشر لتطور الصناعة المصرية، وقد بدأت قصته مع عبد الناصر بعد عودته من بعثته العلمية وحصوله على الدكتوراه حيث اصطحبه رئيس الدولة في رحلة سيارة يتحدثان فيها عن المستقبل الواعد للصناعة المصرية وكانت تلك هي نقطة الانطلاق لميلاد الصناعة المصرية الحديثة. 

 ولعلنا نعترف هنا بأن القوى الكبرى لم تكن دائماً متحمسة لرسوخ الصناعات الوطنية في الدول الأخرى، رغبة في احتكار الأسواق، مع التركيز فقط على جلب المواد الخام من تلك الدول التي كانت لا تزال متخلفة بحكم ظروفها المختلفة، ولقد تمكنت مصر في النصف الثاني من الخمسينات والنصف الأول من ستينات القرن الماضي أن تندفع نحو بناء ترسانة صناعية ضخمة في حلوان وبعض مدن الدلتا بالإضافة إلى نقاط انطلاق صناعية للصعيد ومصر العليا عموماً، ولقد استبشرنا بها خيراً لأنها أصبحت رصيداً للقطاع العام حينذاك، ولكن البيروقراطية الموروثة والروتين الأحمق والقصور عن فهم الارتباط بين الواقع الاجتماعي والصناعة قد أدت كلها إلى تراجع واضح في منظومة العمل الصناعي حتى تحولت كثير من المنشآت إلى كيانات ضخمة ولكن ليس لها تأثير يذكر في العملية الإنتاجية أو عائد على الناتج القومي، ويمكن إرجاع أسباب تراجع التجربة الصناعية المصرية لعدة أسباب:

 أولاً: إن هزيمة عام 1967 قد ضربت المشروع الوطني في مقتل، بحيث تكرست إمكانات الوطن في خدمة إزالة العدوان واستأثرت حرب الاستنزاف بالأولوية في المشروعات المطروحة، كما أن حرب الأيام الستة وهزيمة العرب سياسياً قد أدت أيضاً إلى توقف بعض برامج الإصلاح وإرجاء المشروعات الصناعية تحت وقع الهزيمة وظروف النكسة.

 ثانياً: إن داء البيروقراطية مع سوء الإدارة قد لعب دوراً أساسياً في تعطيل مسيرة العمل الوطني في كافة القطاعات، والملاحظ أن القطاع العام قد عانى كثيراً من التعقيدات الإدارية والروتين الوظيفي بشكل أضر كثيراً بالمحاولات الجادة لتنمية الصناعة، وإيجاد بدائل محلية للواردات الأجنبية في كافة المجالات.

 ثالثاً: برحيل الرئيس عبد الناصر ووصول الرئيس السادات إلى الحكم وتبنيه سياسة الانفتاح الاقتصادي وإعمال آليات السوق وانتهاء عصر الاقتصاد الموجه تراجع دور القطاع العام وتقدم المشروع الخاص، ولكن المشهد العام كان يوحي بنوع من الانفتاح الاستهلاكي الذي لا يعنيه المضي في دعم الصناعة الوطنية وتقوية المشروعات المتصلة بالنفع العام، وعندما أطلق الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين عبارة (الانفتاح سداح مداح) كان ذلك توصيفاً دقيقاً للبدايات الاستهلاكية في السياسة الاقتصادية الجديدة.

 رابعاً: أدى هبوط مستوى التعليم العام إلى توقف الحماس للصناعة الوطنية، فالتعليم هو الوقود الطبيعي لها، ولا زلنا نتذكر أن أدق تعريف للتكنولوجيا إنما هو توظيف التعليم لخدمة الصناعة الحديثة، ولذلك فإن تراجع التعليم المصري لم يؤد فقط إلى انكماش الدور الإقليمي للدولة بل أثر أيضاً على التوازنات القائمة بين القطاعات المختلفة في هيكل الاقتصاد الوطني فلم تعد الصناعة مثار اعتزاز أو مبعث حماس كما كان الأمر في ظل فلسفة التصنيع المحلي «من الإبرة إلى الصاروخ» كما كانت أيام العصر الناصري.

 خامساً: إن توقف الصناعات الوطنية الناجحة مثل ثلاجات إيديال وسخانات المصانع الحربية وهي كلها إنتاج مصري لا تزال له بقايا في بعض منازل الأسر الفقيرة فضلاً عن صناعات الدواء المزدهرة والمشاركة في عملية تجميع السيارات، بحيث أدى كل ذلك إلى ضعف برامج التدريب وخفوت نغمة الإحساس الوطني بالصناعة المحلية، وبرزت الفوارق الطبقية من جديد في ظل الانفتاح الاستيرادي والتعطيل الذي طرأ على الانفتاح الإنتاجي.

 نظن أن الدول القوية والأمم الناهضة قد بنت اقتصادها على الصناعة ولم تترك الحبل على الغارب متجاهلة السياسات الحمائية والقيود الجمركية بحيث امتلأت الأسواق بالصناعات الأجنبية وتوارت المنتجات المحلية، ولا زلت أتذكر من سنوات عشتها في الهند أن تلك الأمة الكبيرة قد وضعت حدوداً مبكرة للاستيراد، وجعلت الإنتاج الهندي هو الاستهلاك الطبيعي للمواطن في بلاده.. أظن أنه قد آن الأوان لثورة صناعية وطنية في كافة الدول العربية دعماً للاكتفاء الذاتي، وتمكيناً للإرادة الوطنية وتعزيزاً للاستقلال الحقيقي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"