مشاهد القتل الجماعي في أمريكا

02:19 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

تكررت صور القتل الجماعي في الولايات المتحدة الأمريكية خلال السنوات الماضية بشكل لافت للنظر، وعكست هذه الظاهرة في أعين المتابعين محلياً ودولياً، مقدار الأزمة الداخلية العميقة التي يواجهها المجتمع الأمريكي بكل مكوناته العرقية، والثقافية، والدينية، لأن عمليات الهجوم المسلح على الأبرياء في مناطق عدة من الجغرافيا الأمريكية، لا يمكن التعامل معها بوصفها حوادث معزولة، لكونها تفصح في واقع الأمر عن وجود أزمة هوية متعددة الأبعاد، مرتبطة بطبيعة مشروع المجتمع، وبالخيارات السياسية والثقافية للدولة المركزية في واشنطن، وبأولويات المؤسسات التنفيذية والتشريعية المحلية في مختلف مقاطعات وولايات الدولة الأمريكية التي تتمتع بهامش معتبر من الحرية، والاستقلالية.
وقد حاول الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، التغطية على هذه المشاهد المتكررة من خلال تنفيذ حملة علاقات عامة انتقل من خلالها إلى مسرح الجرائم ليعبّر عن تعاطفه مع عائلات الضحايا في مدينتين أمريكيتين، شهدت الأولى مقتل 9 أشخاص بولاية أوهايو وعرفت الثانية مقتل 22 مواطناً بولاية تكساس، واستُقبل ترامب خلال زيارته إلى مسرح الأحداث باحتجاجات أكدت مقدار انزعاج وتبرّم قسم معتبر من المجتمع الأمريكي من انعدام الأمن، ومن فوضى السلاح السائدة في أقوى دولة في العالم تحتل المرتبة الأولى في شتى المجالات العسكرية، والاقتصادية، والتكنولوجية، ولكنها عاجزة في المقابل عن التحكم في معدلات الجريمة المرتفعة.
ومن الواضح في كل الأحوال، أن مسألة حمل السلاح في الولايات الأمريكية من طرف المدنيين، تشكل جزءاً من ثقافة قسم كبير من المجتمع الأمريكي، بخاصة لدى السكان البيض الذين يدعمون أفكار اليمين المتطرف، ويساندهم في ذلك لوبي كبير يدافع بشراسة عن تجارة السلاح، اعتماداً على مبررات عدة لعل من أبرزها الإحصاءات الأخيرة التي تفيد بأنه من بين 277 عملية إطلاق نار حدثت ما بين سنة 2000 وسنة 2018 ست منها تم توقيفها من طرف مواطن يحمل سلاحاً، وإلا لكانت حصيلة القتلى - بحسب زعم هذه المصادر- أكبر بكثير.
بيد أن مثل هذه الأرقام تغفل مسألة أن عمليات القتل في أغلبها ليست مرتبطة بأفعال إرهابية، وبالتالي فإن تواتر حدوثها يؤكد انتشار الحقد بين مكونات المجتمع الأمريكي، كما أن حيازة المواطنين للأسلحة يجعل معدل عمليات إطلاق النار قابلاً للارتفاع بشكل مستمر.
كما أن ما يدعو إلى القلق بشأن مشاهد القتل الجماعي في الولايات المتحدة هو أن عمليتي إطلاق النار الأخيرتين، أسهمتا في ارتفاع عمليات القتل التي جرى تنفيذها خلال سنة 2019 إلى 22 عملية، بحسب الأرقام التي قدمتها جامعة نورث إستيرن، وهي أرقام تمثل في مجملها معدلات قتل مخيفة بحسب كل المعايير الدولية المتعارف عليها في هذا المجال. وعليه فإنه، وبالرغم من أن هذه العمليات أعادت إلى الصدارة النقاش المتعلق بحمل السلاح، إلا أن المدافعين عن تجارة السلاح، ما زالوا يرفعون شعارهم التقليدي «شخص جيّد يحمل سلاحاً يمكنه أن يوقف شخصاً سيئاً يحمل سلاحاً». وقد أدت المواقف المتصلبة لليمين المدعوم من طرف شركات صناعة وتسويق الأسلحة الفردية، إلى فشل كل المحاولات التي قادها نواب ديمقراطيون في أروقة الكونجرس، من أجل تشديد الرقابة القانونية على عمليات شراء الأسلحة، لاسيما البنادق الرشاشة التي يخلّف استعمالها عدداً كبيراً من الضحايا في صفوف المدنيين الأبرياء.
ويمكن القول إن عمليات القتل الجماعي التي تضاعفت مع انتقال السلطة في الولايات المتحدة من رجل أسود يمثل الملونين، إلى رئيس أبيض شعبوي يدافع عن تفوق الرجل الأبيض، هي بمثابة ظاهرة توضح بشكل كبير خطورة مقدار الشرخ الحاصل بين فئات المجتمع الأمريكي، وتفيد من ثمة بانتقال أزمة الهوية العرقية والثقافية من مرحلة الكمون إلى مرحلة الاستقطاب الحاد، والمواجهة المباشرة ما بين مختلف الأطراف، لاسيما بعد الأزمة الاقتصادية التي عرفتها الولايات المتحدة منذ سنة 2008، والتي أدت إلى تبخر أحلام ملايين الأمريكيين، وإلى ازدياد نسبة البطالة والفقر بين فئات واسعة من المواطنين.
ونستطيع أن نخلص عطفاً على ما تقدم، إلى أنه ورغم محاولات النخب الأمريكية التقليل من خطورة عمليات القتل الجماعي على تماسك النسيج الاجتماعي الأمريكي، وسعيها إلى صرف أنظار المجتمع عن مشاكله الداخلية من خلال تضخيم الصراع والمنافسة مع الخصوم والأعداء، لاسيما مع الصين وروسيا، إلا أن الجبهة الداخلية الأمريكية مرشحة لمواجهة كثير من الأزمات التي ستزداد حدتها خلال المواعيد الانتخابية المقبلة، بالنظر إلى الاحتقان الكبير الحاصل بين مكونات المجتمع الأمريكي القائم على استقطاب حاد وعنيف بين مختلف الأعراق.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"