الحروب الطائفية وعباءة الدين

03:16 صباحا
قراءة 4 دقائق
تعرف الساحة السياسية والأمنية في العراق وسوريا تطورات كبيرة على خلفية صراعات القوى الإقليمية والدولية من أجل إعادة صياغة خريطة التحالفات في المنطقة، وتكمن الخطورة الكبيرة في كل ما يحدث، في لجوء مختلف الأطراف المتنافسة إلى استثمار الكثير من رموز الهوية الجماعية وفي مقدمتها الدين، من أجل تحقيق مكاسب سياسية طارئة في سياق محيط دولي متقلب، بات مؤهلاً، أكثر من أي وقت مضى، لقبول مختلف الشطحات السياسية للجماعات والقوى التي تسعى إلى توظيف جراحات الهوية وإخفاقات الراهن، من أجل إعادة التموقع على مستوى رقعة السياسة الإقليمية والدولية المضطربة .
ويجب الاعتراف في هذه العجالة، بأن التهديدات التي بدأت تطال كيانات الدول الوطنية في منطقة الشرق الأوسط، هي محصّلة تفاعلات ثلاثية الأبعاد: محلية وإقليمية ودولية . فعلى المستوى المحلي فشلت الكثير من الدول في سوس ملكها وتخلّت عن واجبها في وضع قواعد شفافة وناجعة لحكم راشد، يقوم على أسس المواطنة ودولة القانون التي تساوي ما بين جميع أفراد المجتمع، من حيث الامتيازات والحقوق والواجبات . أما على المستوى الإقليمي فإن أطرافاً عديدة ارتمت في أحضان "التكفيريين" وقبلت توظيف الكثير من الجماعات المتشددة من أجل تحقيق مكاسب سريعة وآنية على أرض الواقع . ويجب الاعتراف هنا بأن أول قوة إقليمية لجأت إلى توظيف هذا المارد الذي أضحى يسمى ب"الإسلام السياسي" لصالحها هي إيران، التي لم يكن لقادتها الأوائل من الحصافة والحكمة ما يؤهلهم لتجنيب أنفسهم والمنطقة برمتها، تبعات التوظيف السياسي للدين، وانخرطوا في مسلسل يعتمد على تصدير "ثورة" قائمة بدرجة كبيرة على التوظيف السياسي للإسلام . وكانت البداية مع اختيار اسم الدولة الإيرانية الجديدة لشعار يحمل الكثير من المخاطر والفخاخ، والذي يمثل فيما أضحى يعرف بالجمهورية "الإسلامية" الإيرانية، وكان يكفي قادة طهران الجدد، من رموز الحوزة الدينية، أن يعيدوا استثمار عناصر هويتهم الدينية على المستوى الداخلي بهدف تشكيل مؤسساتهم الجديدة من دون القيام بتوظيف إيديولوجي سيئ ومتهافت للدين؛ فالدول في أساس نشأتها منذ فجر التاريخ، عبارة عن كيان مجتمعي وسياسي في المقام الأول أما العنصر الهوياتي الذي يمثل الدين أحد تجلياته الرئيسية فيمثل مرجعية من مراجع التعرف إلى الذات في مقابل الآخر المختلف عنها حضارياً، ولا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يختزل بمفرده الذات الحضارية بكل تنوعاتها وثرائها الثقافي واللغوي .
بالنسبة للمستوى الدولي كانت الولايات المتحدة بمثابة الدولة العظمى الأولى السباقة إلى دق أول مسمار في نعش الدولة الوطنية الحديثة، في منطقة تقع في محيط سياسي وجغرافي كبير ومتشابك يعجّ بالصراعات والتناقضات العرقية والدينية . وكانت البداية من خلال دعمها السياسي والعسكري والاستخباراتي لما سمي بالجهاد في أفغانستان، وذلك في سياق الحرب الباردة، التي قاد آخر فصولها المدمرة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، قبل أن يُقدِم جورج بوش الابن على رفع الستار عن آخر مشهد من مشاهد الفوضى العارمة من خلال احتلال وتفكيك وحدة الجيش والدولة في العراق . ومن الواضح أن الغرب بقيادة الولايات المتحدة يسعى منذ سنوات طوال، إلى توظيف جماعات الإسلام السياسي وكل التشكيلات الضبابية والسديمية المتشددة التي تسعى إلى السطو على الدين، من خلال استعمالها كمانع حمل قادر على إجهاض كل مشروع قومي يهدف إلى النهوض بالأمة .
ولا يمكن أن يراودنا - في هذه العجالة - أدنى شك حول الخلفيات والنوايا الحقيقية لدعاة الإسلام السياسي وأقطاب الأممية الإسلامية، لأن الذين يتربصون الدوائر بالكيانات والدول الوطنية يريدون تفتيت وتجزيء المجزأ، فهم يعلمون علم اليقين، أنه لا يمكن في الألفية الجديدة أن تُقام إمبراطورية دينية مترامية الأطراف تقمع الأقليات وترفض الاختلاف، وترى في حرية الرأي والتعبير والاعتقاد كفراً وردةً وخروجاً عن الملة والدين . وبالتالي فإن البديل الذي يعملون من أجل تحقيقه لن يكون أكثر امتداداً أو اتساعاً من دويلات ملوك الطوائف التي تآمرت على الوجود العربي والإسلامي في الأندلس؛ ويمكننا أن نزعم أن ثمة من الغلاة الجدد يُؤسسون - حالياً - لمرحلة جديدة من التشرذم، سيكون من المستحيل بعدها أن تؤمن أي مجموعة عرقية أو لغوية مغايرة بفضائل ومزايا المرجعية الحضارية العربية والإسلامية التي وضع أسسها مفكرون ورواد عرب من غير المسلمين ومسلمون من غير العرب .
ونعتقد أن ما يحدث الآن في العراق، هو محصلة مخطط مدروس من أجل تفتيت وحدة الدول الوطنية في الوطن العربي على أسس مذهبية وعرقية، من خلال استدعاء خطير لصور الحروب الدينية التي عاشتها مجتمعات أخرى في القرون الوسطى . ولا نتصور أن العراقيين الشرفاء من سنة وشيعة، يمكنهم أن يستجيبوا لمخططات القوى والأطراف التي باتت ترى في سيناريو تقسيم العراق أمراً محتوماً . وعليه فليس من مصلحة المكون السني للعراق أن يقوم بمواجهة ظلم بعض الجهات الشيعية، من خلال التحالف مع القوى المتطرفة من أجل السيطرة على مناطق تواجده، بل يُفترض من النخب الوطنية من أبناء السنة أن يطوروا استراتيجية مقاومة جديدة - ترفض ثنائية الخيار بين الطاعون والكوليرا - من أجل تأسيس عراق جديد يكون ملكاً لكل أبنائه، وبالشكل الذي يكون فيه معيار تولي السلطة داخل مؤسساته، مستنداً إلى الكفاءة والاقتدار والولاء لوطن عصري ومنفتح بصرف النظر عن الانتماء المذهبي .
علينا إذاً أن نتساءل في الأخير كم سيمضي من الوقت؟ وكم سيسيل من الدم؟ وكم سيسقط من القتلى؟ قبل أن يقتنع الجميع أن الدين بريء من كل هذه الشعارات والتوظيفات المرضية التي يخطط لها أشخاص مشبوهون وينفذها بقسوة أفراد مهووسون يرون أن منتهى الدين يكمن في سفك دماء من يخالفونهم . فمن الخطورة بمكان أن نستدعي الخلافات التاريخية من أجل تصفية حسابات الراهن، وعلينا أن نعلم أن أسلافنا كانوا أكثر تسامحاً وأكثر فهماً لجوهر الدين قياساً على ما نحن عليه الآن، لأن خلافاتهم لم تتجاوز - في الأغلب - نطاق الجدل والصراع الفقهي والكلامي والفلسفي، ولم ينخرطوا في حروب مذهبية ترتدي عباءة الدين وتدّعي الدفاع عنه؛ وفي مقابل كل ما تركوه لنا من تراث فكري زاخر، يودّ بعض الذين ينسبون جنونهم وهوسهم للدين، أن يتركوا للأجيال المقبلة تراثاً ضخماً من الأحقاد والدم والدموع .

الحسين الزاوي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"