مقاومة مدنية وإبداع شعبي

03:38 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

مضى عام على مسيرات العودة في قطاع غزة، وهي ظاهرة جديدة في الكفاح الشعبي ضد الاحتلال اذ ينشط فيها مدنيون من سائر الأجيال، وتتلقى مسيرات العودة دعماً سياسياً من الفصائل والمنظمات الاجتماعية. وبينما كان الاحتلال يشكو على مدى سنوات طويلة من انطلاق صواريخ من القطاع، فإنه منذ نحو عام بات يشكو من ظاهرة كفاحية مدنية متنامية تمثلها مسيرات العودة.
ولقائل أن يتساءل عن سر مطالبة سكان غزة بالعودة، فيما هم يقيمون على أرضهم. والجواب عن السؤال أن نحو ثلثي أبناء غزة البالغ تعدادهم مليوناً نسمة، هم في الأصل لاجئون تم تشريدهم في عام 1948 من ديارهم، فتوجهوا صوب قطاع غزة الذي يضم ثمانية مخيمات كبيرة تتلقى رعاية متقطعة من وكالة «الأونروا». وهؤلاء يطالبون بالعودة إلى ديارهم التي شردوا منها، فيما يطالب الغزيون برفع الحصار البحري والجوي والبري عن القطاع. والمفاوضات التي يجريها موفدون مصريون إلى القطاع تدور حول مسألة رفع الحصار، مقابل توقف مسيرات العودة. غير أن الاحتلال «الإسرائيلي» اذ يوافق على التهدئة المقرونة برفع تدريجي للحصار، فإنه يتنصل من الاتفاقيات عندما تحين ساعة التنفيذ.
بذل سكان غزة تضحيات كبيرة خلال العام الماضي فقد سقط زهاء 270 شهيداً بعضهم أطفال ونساء، كما أصيب آلاف المدنيين بجراح. وقد بدأت هذه المسيرات بصورة سلمية تامة، على شكل مسيرات احتجاجية، غير أن الاحتلال سرعان ما أخذ يرد عليها بغارات جوية قاتلة. وقد تطورت المسيرات في ما بعد، إلى إحراق الإطارات المطاطية بكثافة على الحدود، ثم إطلاق البالونات المشتعلة، وذلك مع فشل المفاوضات في التوصل الى أي تهدئة نتيجة التعنت «الإسرائيلي» ومختلف أشكال المماطلة من قبيل: لتهدأ الأمور أولاً ثم يجري البحث في المسائل المختلف عليها.
وقد تلقى الجانب الآخر خسائر مادية كبيرة في الممتلكات والحقول الزراعية وإرباك الحياة العادية وبعض الإصابات. وقبل أيام بدأت تنطلق الدعوات لإخلاء المستوطنات المتاخمة لغزة خوفا من تداعيات مسيرات العودة.
غير ان الشعور بالمسؤولية يقتضي التوقف عند الظاهرة وتفحص دروسها. إذ إن مسارعة بعض الفصائل وبالذات حركة حماس الى محاولة الاستيلاء عليها وتوظيفها توظيفا فئويا، قد أضرّ بالمسيرات، ومنح ذريعة للاحتلال بالادعاء بأن هذه المسيرات ليست شعبية بل فصائلية. وقد كان الواجب وما زال يقتضي الحفاظ على صورة الطابع الشعبي والمدني لهذه الظاهرة، وعدم حرفها عن وجهتها.
من جهة أخرى لم تنجح السلطة في رام الله بتبني مسيرات العودة وتوظيفها سياسيا في الكفاح ضد الاحتلال. اذ انعكس الانقسام القائم على نحو بدا فيه أحد الأطراف وهو يحاول الإطباق على هذه الظاهرة وتجييرها لمصلحته الفئوية، بينما اكتفى الطرف الآخر بدعم متقطع غير منهجي للمسيرات، التي تشكل أحد أنبل مظاهر الكفاح الشعبي. ومن المؤسف أنه لم يجر استثمار هذه الظاهرة بصورة سليمة، تؤدي إلى الحد من مفاعيل الانقسام وتضع حدا له. وبهذا فإن المقاومة الشعبية، كحال انتفاضات مدنية سابقة، لم تنل ما تستحقه من تثمير. حتى أن وسائل الإعلام لم تمنح هذه الظاهرة الحجم الذي تستحقه من الإضاءة عليها، فيما قامت وسائل الإعلام الرقمية بالعبء الأكبر في مواكبة هذه الظاهرة، وعبر مبادرات شبابية واجتماعية.
مع الأخذ في الاعتبار أن مسيرات العودة تجد صدى لها في الانتفاضات التي تشهدها القدس المحتلة وبالذات في البلدة القديمة حول المسجد الأقصى وفي ساحاته، كما تجد صدى لها في استهداف جنود الاحتلال والغزاة المستوطنين في الضفة الغربية. وتعجز سلطات الاحتلال عن إدارة معركة سياسية ودبلوماسية تُغطّي على استمرار الاحتلال، وتمنحه مسميات جوفاء مثل السيادة، وكما حدث بخصوص الجولان، علماً أن ألف باء القانون الدولي يفيد بأنه لا سيادة للقوة القائمة على الاحتلال.
وفي جميع الأحوال فإن تواصل مسيرات العودة على مدى عام كامل ورغم التضحيات الهائلة، يبرهن على أن إرادة الصمود الشعبي ما زالت راسخة وصلبة، وأنها تنتقل من جيل إلى جيل.
وترتدي هذه المسيرات أهمية خاصة في الظروف الراهنة حيث تتسارع مشاريع الصفقات من وراء ظهر الطرف المعني، وبالتضاد مع الشرعية الدولية ومع كل ما تواضع عليه المجتمع الدولي من مخارج وحلول على مدى عقود. والحل المطروح الآن في الغرف المظلمة هو التصفية الوجودية للقضية وليس أي شيء آخر. ومسيرات العودة هي أحد أبرز أشكال الاعتراض الجوهري على ما يتم تدبيره بليل، حيث من المقدّر أن نشهد له فصولاً تالية ساخنة في الأسابيع القليلة المقبلة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"