التمديد للأزمة في لبنان

06:12 صباحا
قراءة 4 دقائق

منذ استقلال لبنان في العام 1943 وتبني الآباء المؤسسين لنظام طائفي، أرادوه مؤقتاً فبات أكثر ديمومة وأصلب عوداً من غابات أرزه، لم يعرف نعيم الاستقرار الحقيقي، خصوصاً بعد استيلاد السرطان الصهيوني في حدوده الجنوبية . وعلى خلفية جغرافيا سياسية معقدة في قلب الصراع العربي الإسرائيلي تبين بالبرهان والتجارب المريرة أن النظام الطائفي ليس سوى مصنع لإنتاج المشكلات والأزمات، وبأن بدعة الديمقراطية التوافقية لا تنتج إلا تعطيلاً للحياة السياسية عندما لا يتفق السياسيون على تقاسم غنائم السلطة في ما بينهم . وكان النظام الانتخابي يعيد، على الدوام، إنتاج السلطة السياسية نفسها التي عملت على تكريس زعاماتها وترسيخ النظام الطائفي الذي أنتجها .

لم تغير الحرب الأهلية اللبنانية، بمآسيها واتفاق الطائف الذي أعقبها، من الأمر شيئاً يذكر، بل إن هذا الاتفاق كرس الطائفية فأعاد توزيع الحصص السياسية على أساسها . وخلال سنوات الوصاية السورية لم يكن على اللبنانين تكبد عناء البحث عن قوانين تجري بموجبها الانتخابات النيابية في ما بعد الطائف، إذ كانت مثل هذه القوانين، مع أسماء النواب والوزراء، تأتي جاهزة معلبة من دمشق أو من مقر قائد الاستخبارات العسكرية السورية في بلدة عنجر البقاعية .

بعد انتهاء الوصاية وانسحاب الجيش السوري من لبنان في العام 2005 جرت الانتخابات النيابية على أساس قانون غازي كنعان الذي كانت قد جرت بموجبه انتخابات العام 2000 . وغداة اتفاق الدوحة في مايو/أيار 2008 عادت الطبقة السياسية اللبنانية إلى الأرشيف لتكتشف أن قانون العام 1960 يناسب تقاسم الحصص بين الائتلافين السياسيين اللذين نشآ صبيحة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في فبراير/شباط 2005 . واتُفق على السعي، من خلال الحكومة، إلى العثور على قانون عصري يؤمن التمثيل الصحيح والديمقراطية للشعب اللبناني في انتظار تطبيق اتفاق الطائف الذي ينص على تشكيل هيئة تخطط للإلغاء التدريجي للطائفية السياسية .

استمر النقاش العام أربع سنوات طويلة كاملة في القانون الانتخابي الأفضل، فاستعرضت، في صفحات الصحف والمجلات المتخصصة والمؤلفات وغيرها، كل القوانين المعمول بها في العالم منذ أن وجدت الانتخابات . وكانت لجنة عينتها حكومة الرئيس السنيورة برئاسة وزير الخارجية الأسبق فؤاد بطرس وعضوية من سيصبح وزيراً للداخلية زياد بارود، قد انتهت إلى اقتراح قانون مختلط بين الأكثري والنسبي، لكنه وضع في الأدراج الحكومية . ثم تمكنت حكومة ميقاتي من الاتفاق على قانون يقوم على النسبية والمحافظات لم يكن ليقره المجلس النيابي لافتقاره إلى الأغلبية . واقترح نواب أرثوذكس قانوناً يقوم على انتخاب الطوائف لممثليها في البرلمان كاد يمر لولا أنه في اللحظات الأخيرة تخلت عنه كتلة القوات اللبنانية، كما اقترح الرئيس بري قانوناً مختلطاً، وآخرون قانوناً يحمل عنوان صوت واحد لمرشح واحد وآخر، وآخر . . .

عام كامل من المناقشات والمفاوضات المضنية بين السياسيين اللبنانيين من دون التوصل إلى قانون متفق عليه للانتخابات النيابية التي كان سفراء القوى العظمى والإقليمية يحضونهم، ليل نهار، على إجرائها في موعدها الدستوري حرصاً على استقرار البلد، لاسيما بعد انفجار الثورة السورية وتداعياتها على دول الجوار . عام كامل من الكذب والاتهامات المتبادلة بالتعطيل بين السياسيين الذين كانت المصلحة الوطنية والشعبية في آخر قائمة اهتماماتهم، والذين لم يعد يدري اللبنانيون ما إذا كانوا فعلاً يبحثون عن قانون للانتخاب أم يضيعون الوقت وصولاً إلى تمديد بقائهم في السلطة .

وصل الاستحقاق الدستوري وباتت البلاد أمام شبح الفراغ الدستوري في وجود حكومة مستقيلة وعلى مسافة أشهر قليلة من نهاية ولاية رئيس الجمهورية، وعلى خلفية توترات أمنية عبارة عن هزات ارتدادية للزلزال السوري . وفي أقل من عشر دقائق تمكن البرلمانيون من التمديد لأنفسهم حتى العشرين من نوفمبر/تشرين الثاني ،2014 أي حتى تكون الأزمة السورية قد انجلت عن ميزان قوى سوري وإقليمي جديد . وفي أقل من ثمان وأربعين ساعة بات قانون التمديد نافذاً بفعل المسارعة إلى نشره، كملحق خاص، في الجريدة الرسمية . وأخذ كل فريق يرمي على خصومه تهمة التمديد فيتبرأ منها أو يبررها كأمر واقع أفضل من الفراغ . فقط كتلة الجنرال ميشال عون أصرّت على رفضها التمديد فقاطعت الجلسة النيابية المخصصة له متذرعة بعدم دستوريته، وهذا صحيح، وبأن الظروف لا تمنع إجراء الانتخابات والاتفاق على قانون لها إذا حَسُنَت النوايا . لكن الحقيقة أن رفض عون نابع من أن التمديد سوف يضيع عليه فرصة الحصول على عدد من المقاعد كان يمكن له الحصول عليها في الوقت الحاضر بفضل شعار التمثيل المسيحي وحقوق المسيحيين الذي تبناه واستمر في التمسك به بعد تخلي سمير جعجع عنه في اللحظة الأخيرة . والحصول على كتلة نيابية كبيرة يمكن له أن يفتح أبواب القصر الرئاسي أمام الجنرال وهي فرصة قد لا تتكرر .

الجنرال عون تقدم بطعن أمام المجلس الدستوري، كما فعل رئيس الجمهرية الشيء نفسه من جهته . ومنذ اللحظة بدأت الأنظار تتجه صوب هذا المجلس الذي سيتهم بالتواطؤ مع رئيس الجمهورية،الذي عين رئيسه، إذا قبل بالطعن، أما إذا رفضه فإن شرعية المجلس نفسه سيُطعن بها لأن عدداً من أعضائه انتهت ولايتهم القانونية . لكن المجلس يقول إن نظامه الداخلي يسمح لهؤلاء بالبقاء في مناصبهم طالما أن الحكومة لم تعين من يحل محلهم .

هناك من يقول إن المجلس قد يوافق على الطعن ويقترح تمديداً تقنياً للمجلس لأشهر قليلة تجري بعدها الانتخابات . لكن في جميع الأحوال سيكون اللبنانيون أمام أزمة جديدة من نوع جديد وعلى خلفية احتقان مذهبي متعاظم وأزمة سورية تهدد بإحراق لبنان في طريقها . إنه تمديد للأزمة في انتظار جلاء أزمة من نوع آخر في البلد الشقيق .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"