عصيان مدني أم وفاق وطني؟

04:59 صباحا
قراءة 4 دقائق

للعصيان المدني تاريخ معروف يحفل بعدد من السوابق في بعض دول المنطقة، ولعل السودان الشقيق هو النموذج الأقرب في هذا السياق، ففي الحادي والعشرين من شهر أكتوبر/ تشرين الأول العام 1964 أغلق السودانيون المحال التجارية وانقطعوا عن العمل واعتصموا بمنازلهم فتوقفت الحياة تقريباً وسقط نظام الفريق إبراهيم عبود، ثم كرر السودانيون النمط ذاته والأسلوب نفسه العام 1985 مع تجمع للنقابات والهيئات والطرق الدينية والأحزاب السياسية فسقط نظام جعفر النميري، فالعصيان المدني إذاً، هو نوع من الاحتجاج السلبي القوي لإطاحة حاكم مستبد أو نظامٍ انتهى عمره الافتراضي، وقد نظرت حولي فوجدت أن النظام قد سقط وأن الرئيس قيد المحاكمة الجنائية، وأن رموز النظام السابق في السجون بين معتقلٍ ومحبوسٍ وسجين . لقد حققت الثورة المصرية الشعبية الكثير من أهدافها التي انطلقت من ميدان التحرير في يناير 2011 من أجلها فلم يعد للعصيان المدني محل من الإعراب أو مبرر وطني قائم .

وقد يقول قائل على الفور إن الثورة لم تتم فصولاً، وإن هناك أقوالاً تتردد وأحاديث تتكرر عن سرقة الثورة والتلاعب بمسارها، لذلك فإننا نؤكد قناعتنا بأن هناك عشرات الأسباب والمؤشرات التي تقف وراء ما يجري على ساحة الوطن بدءاً من إطفيح مروراً بإمبابة، وصولاً إلى ماسبيرو، ثم محمد محمود ومجلس الوزراء وأخيراً مذبحة بورسعيد المروعة، ولا نجد إلا تفسيرات غامضة وتحقيقات ناقصة وعبارات عامة . ورغم أنني ممن لا يدعمون نظرية التفسير التآمري، فإنني أشعر بأياد خفية وربما أيضاً أصابع أجنبية تعبث بأمن مصر وتسعى إلى تقويض دعائم الدولة . . وأي دولة؟ إنها ربما تكون أقدم دول العالم وأكثرها استقراراً على مدار التاريخ الإنساني كله، لذلك فإن الدهشة تصيب الجميع عندما نرى بلداً يضم ذلك الحشد الهائل من العقول التي يقتحم بعضها حاجز العبقرية إلى جانب ظروف طبيعية ومناخية تؤهل مصر بمنطق الجغرافيا لأن تكون هي عمود الخيمة أو دولة الاستقرار في المنطقة، لأن دورها معطى تاريخي وحقيقة ثابتة وليس منحة من أحد، ولذلك فإنني أظن أن الدعوة إلى العصيان المدني تأتي في غير موضعها، وأن الأولى أن يكون بديلاً منها، البناء الوطني، لأننا قد أضعنا تقريباً عاماً بالكامل من دون أن نصل إلى شاطئ الأمان، فالأمن مازال غائباً والجريمة المنظمة بدأت تأخذ مساراً خطراً في بلادنا، لذلك فإننا نورد الملاحظات الآتية:

* أولاً: إن قراءتنا لأحداث العام الماضي تعطي إحساساً عميقاً بأن ثورة شعبية ضمت شرفاء الوطن، نجحت في إسقاط النظام القائم، ولكن قفز عليها أصحاب الأجندات الأخرى من القوى السياسية المختلفة والتيارات الفكرية المتنوعة، وحاول كل منهم أن يجذب الثورة في اتجاهه وأن يستثمر عوائدها لمصلحته، كما ظهرت عناصر غير معروفة الهوية اعتمدت التخريب أسلوباً والقتل العشوائي أداة لطعن الثورة في ظهرها، واختلفت الآراء، فمن قائل إنها فلول الماضي وبقايا أصحاب المصالح ممن يدافعون عن أوضاع يفقدونها وميزات تضيع منهم بفعل الثورة التي ترفع العدالة الاجتماعية شعاراً لها، وقائل آخر يقول بل هي مجموعات من البلطجية الذين خرجوا من معاناة الحياة وقسوة العشوائيات، بل قد يكون معظمهم من أبناء الشوارع الذين عاشوا معظم سنوات عمرهم تحت الكباري في ظل أسوأ الممارسات التي لا تخفى على أحد، وإن هؤلاء يستثمرون حالة الفوضى لكي يكونوا طرفاً في الصراع المحتدم، خصوصاً أنه ليس لديهم ما يفقدونه . ويدخل تفسير آخر يرى أن هذه المجموعات من البلطجية لقيت رعاية من بعض العناصر الأمنية السابقة حتى دخلت إلى الساحات والميادين وهي مدربة ومؤهلة لما تقوم به، ولعلي أظن أن ما جرى في ماسبيرو ومحمد محمود وساحة مجلس الوزراء ثم مذبحة استاد بورسعيد هي نماذج لوجود ذلك الطرف الثالث الذي يمزق نسيج الوطن ويقطع أحشاءه بلا رحمة، بينما الثورة الشعبية من كل ذلك براء، من هنا فقد شعرنا عندما جرى الحديث عن العصيان المدني بأن طعنة من نوع جديد توجه إلى صدر الأمة المصرية باسم الثورة وفي ظل شعاراتها التي خرجت من أجلها الجماهير يوم الخامس والعشرين من يناير 2011 .

* ثانياً: لماذا لا نتطلع إلى المستقبل ونسعى إليه ونهرب من حاضرنا الصعب فنفكر في استقرار الدولة وسلامة أركانها، وانتخاب رئيس جديد لها يعرف الطريق الصحيح نحو المستقبل الذي تستحقه مصر معتمداً على رؤية صائبة وفهم صحيح للنهج الذي يجب أن يسلكه الوطن من أجل تحقيق أهداف الثورة في ضرب الفساد والاستبداد والاحتكام إلى العدل الاجتماعي أداة وأسلوباً للوصول إلى المستقبل الذي نبغيه؟ . . إننا أمام مفترق طرق، فإما أن نستسلم لمواقف سلبية في مقدمتها الهدم لكل ماهو قائم والتطاول على كل القامات مهما كان تاريخها، إلى جانب حديث التصفيات حتى فوجئت بأن أستاذاً للقانون يطالب بحملة اعتقالات عشواء من دون سند من القانون الذي درسه ولا العدل الذي تشدّق به، ولا الإسلام الذي انتسب إليه، كما أن العصيان المدني موقف سلبي لا تلجأ إليه الثورات إلا في حالة فقر الخيال والدخول في متاهات صحراء الفكر .

* ثالثاً: أطالب المصريين جميعاً وأبدأ بنفسي بأن نكون عند مستوى المسؤولية التاريخية التي تمر بها البلاد، وأن ندرك أن الهدم سهل ولكن البناء صعب ويجب أن نتفرغ جميعاً لصياغة المستقبل وتحديد أطره وهياكله، لأننا ننتمي إلى وطنٍ يستحق أكثر بكثير مما مر به في العقود الأخيرة، ولنطرح الأجندات الشخصية جانباً ولنفكر فقط في إعلاء كلمة مصر والنهوض بها، فالدولة المصرية مهددة لأول مرة في أعمدة بنائها ومؤسسات وجودها، وكفانا الوقت الذي أضعناه في السفسطة الهوجاء والجدل العقيم اللذين يخفيان وراءهما خلافات عقائدية أحياناً ولكن تصفيات شخصية دائماً .

. . إن البناء الوطني أولى من العصيان المدني والمستقبل أفضل من الماضي، كما أن الغد لا يقل أهمية عن اليوم، ويجب أن تكون دماء الشهداء الطاهرة وقوداً لبناء الدولة المصرية الحديثة بعد أن طال الانتظار وضاعت الفرص وأهدرت الكفاءات . ولا أعرف لماذا أتذكر الآن ما قاله البرلماني اليساري المخضرم كمال أحمد من أن دورة الاستعباد الداخلي قد تؤدي إلى دورة التدخل الأجنبي حتى تمضي الأمور في حلقة شريرة . . حفظ الله مصر وحماها من كل سوء .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"