ديكارت والنظام السياسي العربي

02:47 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

تكاد تكون الهوة الواسعة بين الشعار المعلن وتطبيقه واحدة من السمات المشتركة بين الأنظمة السياسية العربية، فمنذ خمسينات القرن الماضي عرف العالم العربي عدداً من الشعارات العامة التي حدّدت سياسات أنظمته الخارجية، ورسمت ملامح معاركه، واستهلكت نضالات كثيرة لأجيال متعاقبة، كما أطلقت الأنظمة نفسها شعارات عدة كعناوين لأهداف سياساتها الداخلية، تتناسب - من حيث الظاهر- مع عناوين سياساتها الخارجية، وقد شهدت مجمل تلك العناوين الخارجية والداخلية انتكاسات مريرة ومتوالية.
المعادلة المقلوبة في النظام السياسي العربي التي أعطت العناوين الخارجية أهمية كبرى على حساب القضايا الداخلية كانت أحد أسباب التردي العربي في المجال الإقليمي من جهة، وفي مجال معالجة قضايا الشعوب والمجتمعات من جهة أخرى، فقد حاولت مجمل الأنظمة السياسية العربية أن تبرر إخفاقاتها الداخلية من خلال التحديات الخارجية، بل أن تأجيل عملية إيجاد حلول حقيقية لمعضلات الفوات الاجتماعي كان متاحاً للأنظمة السياسية طالما أنها تواجه على الدوام معضلات أكثر إلحاحاً في الساحة القومية ومحيطها الإقليمي، وكان على الفئات الاجتماعية الأكثر فقراً في النظام الاقتصادي أن تدفع ثمن تلك السياسات، وأن تنزاح أكثر فأكثر نحو الهوامش، وأن تغدو مع الوقت خارج المعادلة الاجتماعية.
إن ميزة العقل الديكارتي لا تكمن فقط في رفع الشك إلى مبدأ أعلى في المنهج، فالفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650) اعتبر أن الانطلاق من الحدود الأدنى هو العملية الأكثر دقة في الوصول إلى معرفة الحدود الأكثر تعقيداً في المعرفة، وقد دشّن بذلك منهجاً في المعرفة استفاد منه لاحقاً علم الاجتماع، وفروعه العديدة، وخصوصاً علم الاجتماع السياسي، وأصبح المنهج الديكارتي في تقسيم المشكلات إلى وحداتها الصغرى منهجاً رئيسياً في معالجة معضلات الوقائع الاجتماعية والسياسية، حيث لا يمكن الإحاطة بالتعقيدات الكبرى من دون النظر إليها في سياقها البنائي، ومعرفة ما يعتري السياق من أزمات وتداخلات.
إن تاريخ الدولة الحديثة في سياقها الأوروبي العام هو سياق حضور العقل والعقلانية، ولديكارت في هذا السياق مكانة رئيسية، فتاريخ الدولة الحديثة نفسه هو سياق عقلنة التاريخ والسياسة، وكذلك عقلنة النظام السياسي الذي تخلّص من شرعياته المطلقة، عبر نضالات واسعة ومتصاعدة من أجل إعادة الشرعية للشعب، وجعل قضايا المجتمع هي المعيار الفاصل في تحديد مدى صلاح النظام السياسي، وقد ترافق ذلك السياق مع توسيع قاعدة ممثلي المجتمع، من نقابات واتحادات وأحزاب وجمعيات، والتي أصبحت في تفاعلها وتنافسها هي المحدد للنظام السياسي وبرامجه الداخلية والخارجية.
وإذا كان النظام السياسي العربي الذي تأسس في مرحلة ما بعد الانتدابات قد بُني في سياق مختلف، هو سياق التحرر من القوى الاستعمارية، إلا أنه لم يغادر مرحلته الانفعالية إلى مرحلة العقلنة، وبقي أسيراً في جوانبه الكبرى لحالة الانفعال بالخارج، وإذا كان مفهوماً أن تترك مرحلة الانتدابات تأثيراتها إلى فترة وجيزة، إلا أنه من غير العقلاني أن يبقى الانفعال بالخارج هو المحدد لبوصلة الأنظمة السياسية إلى عقود، إلا أن معطيات واقع الأنظمة السياسية تشير إلى أن إبقاء الخارج عنواناً لرسم السياسات قد تحوّل مع الزمن إلى مصلحة تخص شرعية الأنظمة وبقاءها أكثر مما يخص مصلحة المجتمعات.
الانطلاق من المستويات الصغرى عقلانياً يعني الاهتمام بالاقتصاد الاجتماعي، والذي يعدُّ القاعدة الراسخة لاستقرار المجتمع، فمن دون توازن اقتصادي معيشي فإن الإفقار المتزايد سيكون هو النتيجة الحتمية للسياسات مهما كان القناع الذي تلبسه، ولا يكفي إطلاق شعارات إيديولوجية كبرى من أجل إبقاء المجتمعات دون حالة الانفجار، كما لا يكفي إعطاء شرعية مستدامة للنظام السياسي والسلطة الحاكمة، فكل سلطة، مهما بلغت من امتلاك عناوين الشرعية الخارجية فإن مآلها هو الاصطدام بفشل الداخل، وارتفاع منسوب النقمة من قبل الفئات الأكثر تهميشاً في السلم الاجتماعي-الاقتصادي.
إن العودة إلى المبدأ الديكارتي في بناء المعرفة بالواقع السياسي انطلاقاً من المعايير الصغرى، ومن قراءة واقع الوحدات المكونة للمجتمع، يبدو أمراً لا مفر منه اليوم في حالة العالم العربي، فنحن إزاء واقع مجتمعي بائس في معظم الدول العربية، من فقر وبطالة وتدني مخرجات التعليم ونقص المشاركة السياسية وضعف التنظيم النقابي وغياب الحريات وتخلف القوانين، وغيرها الكثير من المؤشرات التي يمكن رصدها بسهولة، كما يمكن حصرها إحصائياً، والانطلاق منها لتجاوز المآلات الكارثية لمثل هكذا أوضاع، وعدم الوقوع في سيناريو الاضطرابات والفوضى العارمة والحروب الأهلية التي لم يستطع عدد من الأنظمة العربية تفاديها، نظراً لتضخم الذات، ونقص العقلانية، وعدم رغبة في قراءة واقع الوحدات الصغرى، والتمسك بالعناوين الخارجية، للإبقاء على شرعيتها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"