غُرْبة

05:00 صباحا
قراءة 3 دقائق

يردني بين الفينة والأخرى وعلى شاشة هاتفي الجوال خبرٌ أو معلومة باللغة الإنجليزية، وكثيراً ما يلتبس علي الأمر في فهم مضمونها لما تحتويه في أغلب الأحيان من كلماتٍ وعباراتٍ لست ملمّاً بمعناها على وجه الدقة، مصدرها جهات رسمية وأخرى غير رسمية، ولا حاجة هنا إلى التسمية لما يسببه ذلك من إحراج لنا جميعاً، فنحن في هذه البلاد أصبحنا كالببغاء الذي يقلد ما لا يَفْهَم، جهات رسمية وأخرى شبه رسمية تفاجئك بنص إنجليزي، وكأنك من أحفاد لورد ماكولي وما أدراك ما لورد ماكولي، إنه ذلك الإنجليزي الاستعماري الذي جال في بلاد الهند عرضاً وطولاً، وعندما عاد إلى عاصمة بلاده لندن خاطب البرلمان البريطاني قائلاً:

لقد جبت بلاد الهند طولاً وعرضاً، فلم أرَ فقيراً يشحذ، ولا لصاً، لقد رأيت الغنى، والقيم الأخلاقية الراقية، فأنا لا أعتقد أبداً أننا سنقدر على غزو هذه البلاد وفيها هذا النوع من البشر، إلا إذا تمكنا من كسر العمود الفقري للأمة المتمثل في تراثها الثقافي والروحي، لذلك أرى أن نستبدل بنظام تعليمها القديم، وثقافتها نظاماً إنجليزياً رثاً نزعم أنه الأفضل لها ولتطورها، وبذلك نتمكن من السيطرة عليها، بعد أن تكون قد فقدت احترام ذاتها . كان ذلك في الثاني من فبراير/ شباط من عام 1855م أمام البرلمان البريطاني . وما أشبه الليلة بالبارحة، لقد انطلت علينا قضية العولمة ورأينا فيها ما حسبناه نافعاً لنا، ولم يكن ذلك سوى سُم دُس في دسم تجرعنا كأسها ونحن ذاهلون، إلى أن استفحل داءً لا نعرف كيفية الخلاص منه ولا كيفية العثور على الدواء الناجع له .

نمعن النظر في وضع لغتنا الأم وعلى أرضنا، فماذا نرى؟ نرى العتمة ماثلة بقضّها وقضيضها كالحة المعالم تنذر بسوء العاقبة، وإذا ماقُدر لها أن تستفحل أكثر فأكثر فقُل سلاماً على القوم ولغتهم . وليست وزارة التربية والتعليم المسؤولة الوحيدة، وإن تكن جهة ذات اختصاص، لكن اللغة العربية مسؤوليتنا جميعاً، مؤسسات وأفراداً، ينبغي أن نتصدى لها تنسيقاً وتخطيطاً وتنفيذاً .

ترى كم سنستغرق من الزمن لننتبه لما يُبَيتُ لنا ولهويتنا الوطنية وعمودها الفقري لغتنا العربية؟ إننا إن لم نبادر إلى عملية الإنقاذ الشاملة للخروج من المأزق الذي وقعنا فيه بإرادتنا بعد أن خدعنا البرق الخُلبُ برق العولمة، فإن البلاء سوف يعمّ، والخطب سوف يطمّ ويغمّ .

لقد تابعتُ كل ماكتب عن هذا الموضوع الحيوي تقريباً، ولاحظت بكثيرٍ من الأسف أن أغلب الكتابات عنه، كتاباتٌ خجولة تتفادى وضع الإصبع على موضع الألم، فهي تناشد الوهم أكثر مما تناشد الحقيقة، وتطرق باب الخيال بحثاً عن الحل، والحل نُصبَ أعينها كالشمس في رابعة النهار . لا أعرف لهذا الجبن من سبب ولا دافع، ولنفترض أن هناك سبباً وهو الخوف من المجهول، فما هو المجهول ياترى؟

هنا يحضرني موقفُ رئيس بلدٍ عربي، رأى بأم عينه بعض الشبان في عاصمة بلاده يأكلون ويدخنون في نهارٍ رمضاني، فما كان منه إلا أن أوعز إلى السلطات ذات الاختصاص بوقف هذه الممارسة المشينة الجارحة لأخلاق الدين الحنيف، وعندما قيل له: إن عاصمة بلاده تضم عدداً من غير المسلمين الذين لا يصومون رمضان، أجاب: لهم الحق في الأكل والشرب ولكن في بيوتهم، لقد صدق من قال: يزع الله بالسلطان مالا يزع بالقرآن .

إذاً، نحن أمام قضية تمسنا في الصميم، ألا وهي قضية لغتنا العربية التي لا نقبل بالتنازل عنها مهما كانت الفوائد المادية المتحجرة التي قد تأتي من العولمة الزائفة . إن دول أوروبا على سبيل المثال ترفض هذه العولمة، وهي فكرٌ غربي المنشأ بل الولادة، ورغم ذلك فالأخذ به على حساب المصالح القومية أمر مرفوض، باستثناء بعض جوانب هذا الفكر العولمة التي ترى فيها تلك الشعوب المتحضرة مايحقق لها مصالحها، فلماذا لا نقلّدها ياترى؟ آخذين بالقول المأثور: وتشبّهوا إن لم تكونوا منهم .

يبدو أننا أصبحنا عديمي الإحساس بموروثنا الثقافي والأخلاقي، وعلى رأس ذلك لغتنا الأم، فلا عجب من رؤية جيلٍ بأكمله يتحدث كالببغاء في كل مجلس، وكل منتدى، وكل تجمع حتى أصبح مايسمى الأرابيزي لغةً سائدةً بين مختلف شرائح المجتمع . إن الجهات الرسمية التي تراسل (خلفانَ) أو (هلالاً) بلغةٍ غير لغته تفترض فيه انتسابه إلى لورد ماكولي المذكور من قبل . يالها من عثرة تزداد يوماً بعد يوم، لتشكل جبلاً من المأساة التي سيعانيها هذا البلد وأبناؤه، ما لم نبادر اليوم قبل الغد إلى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بصيانة تراثنا، وعلى رأس ذلك لغتنا لغة القرآن الكريم إنا أنزلناه قرآناً عربياً، ولم يقل جل جلاله عولمياً، وهو العالم بالأمس واليوم والغد .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"