«داعش» في المخيلة العربية

03:44 صباحا
قراءة 5 دقائق
الحسين الزاوي

أصبح للتنظيمات الإرهابية التي أفرزتها جماعات الإسلام السياسي تأثير كبير في المخيلة العربية المعاصرة، التي باتت تعج بصور متناقضة عن الدولة والمجتمع وعن الدين والدنيا، وتكاد المجتمعات العربية تنقسم إلى فرق ونحل، بعضها يؤمن بالحداثة والمعاصرة وبفضائل الدولة المدنية الحديثة، بينما يروّج بعضها الآخر لما يسميه ب«دولة الخلافة» وتطبيق ما يوصف بالحدود. وبين هذه الصورة وتلك تشتعل نار التفرقة والحروب الأهلية في أكثر من منطقة عربية. كانت البداية الكبرى لهذا التحول مع مجيء الاحتلال إلى المنطقة العربية سنة 2003، أي مباشرة بعد نكبة غزو العراق، ثم تتالت بعد ذلك الأحداث بشكل دراماتيكي، حيث فجّر الصراع حول السلطة في العراق تنافساً محموماً بين مكونات الشعب العراقي وتدخلت القوى الإقليمية لتعطي لهذا الصراع بعداً طائفياً مدمّراً، إذ إنه وبعد عقود من الممارسة السياسية المستندة إلى مرجعية حزب البعث العراقي، وجد المكوِّن السني نفسه خارج أسوار السلطة، الأمر الذي دفع قلة من هذا المكوِّن إلى الارتماء في أحضان التشدد بعد فشل الطبقة السياسية العراقية في بناء نظام سياسي وطني يضمن المشاركة السياسية المتكافئة لكل العراقيين؛ كما أفضت الأحداث المأساوية في سوريا إلى استقطاب كل المهووسين باسم الدين إلى «الهجرة والتكفير» بتشجيع ومباركة من بعض المشايخ الذين أفتوا بضرورة الجهاد في سوريا، تعويضاً عن تخاذلهم في الدعوة إلى نصرة الشعب الفلسطيني.

أدت الأحداث المأساوية في سوريا والعراق إلى ولادة جنين مشوّه الخَلق والخُلق، ما فتئ ينمو ويكبر على هيئة وحش كاسر يدمّر البلاد والعباد ويقضي على الحجر والشجر، يرهن مستقبل الأمة ويعبث بحاضرها وينتقم من تاريخها وماضيها الحضاري، يجمع في أحشائه كل الحانقين والناقمين والمهمّشين القادمين من كل أصقاع العالم. هؤلاء المغامرون، وبعد أن فشلوا في تحقيق أحلامهم وتطلعاتهم في بلدانهم الأصلية، يطمحون الآن إلى تحويل دماء الأبرياء إلى إكسير لحياتهم الجديدة القائمة على السبي والسلب والنهب. علينا الاعتراف في هذا المقام بأن هذا التنظيم الوحشي ليس وليد الأوضاع المأساوية في سوريا، ولكنه بذرة أصلية من البذور الخبيثة التي غرسها الاستعمار الأمريكي في العراق، بعد أن قوّض أسس ومقومات المجتمع وأعاد إحياء الهويات البائدة.
يلخّص «داعش» بمعانيه ورمزيته ركام التطرف الذي عرفته مجتمعات عربية في أزمنة متعددة من تاريخها المعاصر، بعدما عايشت أزمات سياسية وضعفاً هيكلياً في مؤسسات دولها الوطنية؛ وتمثلت الجذور الأولية لهذا التحول الشيطاني المتمثل في انتقال الإسلام السياسي نحو الممارسة العنيفة، في تفجّر «الثورة الإيرانية» وما أعقبها من تأسيس لما سمي «الجمهورية الإسلامية»، مروراً بالحرب المدمرة في أفغانستان، ووصولاً إلى الأحداث الأليمة التي أدمت الجزائريين في مطلع التسعينات من القرن الماضي. ومثلت مقولة تأسيس «الدولة الإسلامية» الشعار الأبرز لمختلف الجماعات المتطرفة التي استباحت دماء أبناء جلدتها، وأثّر هذا الشعار رفقة شعارات أخرى من قبيل «الإسلام هو الحل»، في أجيال من تيارات الإسلام السياسي؛ التي بدا لها وأنها تكتشف فجأة أن المجتمع الذي تعيش فيه لا «يلتزم» بمبادئ الدين وأن الدولة التي تحكمه لا «تطبِّق» أحكام الشريعة.
هكذا هيمن التصور السلوكي للعقيدة على جوهر الدين وظن المتأثرون بالخطاب الديني المتشدد أنه ليس هناك إمكانية لوجود ممارسة دينية حديثة تجمع ما بين الأصالة والمعاصرة، وأدى تدخل بعض مشايخ الدين في السياسة إلى إفساد السياسة وتشويه الدين؛ وبخاصة بعد أن نشروا بين أتباعهم تصورات خاطئة عن مفاهيم الممارسة السياسية الحديثة وأشاعوا أن كل فصل إجرائي بين الدين والدولة أو بين الدين والسياسة هو إلحاد وكفر، وأن من يتحدثون عن الليبرالية والعلمانية والديمقراطية ومبدأ الفصل بين السلطات هم أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان، حتى إن التزموا بتأدية شعائر دينهم من غير إفراط ولا تفريط.
ونستطيع القول إن المناخ التكفيري أفرز ردود أفعال متعددة، وولّد في مخيلة الكثير من المسلمين تصورات خاطئة عن معاني الإسلام وعن علاقته بالسياسة، وخلق وضعيات اجتماعية مأزومة دفعت الكثيرين إلى هجر أوطانهم؛ وقد أشارت الكثير من الدراسات إلى أن المسلمين المعتدلين يشعرون بالقلق تجاه مستقبل أوطانهم، ويعتقدون أنه سيكون من الصعب عليهم أن يواصلوا العيش في مجتمعاتهم إذا ما استمرت موجات العنف والتطرف؛ كما أوضحت بعض التقارير الإعلامية أن العنف الذي تقوم به الجماعات المحسوبة على الإسلام السياسي تدفع بعض الناس إلى التشكيك في مبادئ الإسلام، واعتبرت دار الإفتاء المصرية أن السلوكات العنيفة التي تمارسها الجماعات التكفيرية تمثل أحد الأسباب الرئيسة في انتشار ظاهرة الإلحاد في الكثير من الدول العربية.
ويمكننا الإشارة في سياق متصل إلى أن العنف الذي مارسته الجماعات المسلحة ضد مواطني بعض القرى في الجزائر، دفع الكثيرين إلى اعتناق المسيحية نتيجة لجهلهم واعتقادهم الخاطئ أن الجماعات المتطرفة تملك وحدها حق تمثيل الصورة الصحيحة للإسلام.
يمكننا أن نضيف عطفاً على ما سبق، أنه بدأت تنتشر الآن في مخيلة بعض الشباب العربي الكثير من الصور المتناقضة الناجمة عن أزمة الهوية الدينية المفتعلة، فهو يحلم من جهة بالهجرة والعيش في الدول الغربية العلمانية، لكنه قد لا يتردد في التصويت لمصلحة من يرددون شعار «الإسلام هو الحل» معتقداً أن الشعار الديني يمكنه أن يكفل وحده تحقيق حلم العدالة الربانية المنشودة. ولا يتردد أتباع التيار الديني من اللاجئين في الدول الغربية في الدفاع عن الحرية الشخصية وعن حق المرأة في ارتداء شكل اللباس الذي تراه مناسباً لها، لكنهم يشنّون هجوماً لا هوادة فيه ضد هذه الحرية ويعتبرونها منافية لتعاليم الشريعة عندما يتعلق الأمر بالحديث عن مجتمعاتهم الأصلية؛ وأحسب أن حالهم ينطبق عليه ما قاله الحسن البصري في الحجاج: «ألا تعْجبونَ من هذا الفاجر يرقى عتباتِ المنبر فيتكلّم كلامَ الأنبياء، وينزل فيفتك فتكَ الجبّارين، ويوافق قول الله في قوله، ويخالفُه في فعله». والحقيقة التي لا مجمجة فيها أن المجتمعات العربية المعاصرة باتت تعايش الظاهرة المرتبطة بمجموعة «داعش» وأخواتها في سياق يتسم بالكثير من العنف المجتمعي، وتحمل الأطراف المتصارعة صوراً صادمة ومتناقضة عن الطرف المنافس؛ وقد طال هذا التناقض حتى الخلية الأسرية، وباتت هذه التناقضات المجتمعية تهدد الوحدة الوطنية للدول، ولولا التماسك الذي ما زالت تتمتع به المؤسسات الأمنية في معظم الدول العربية، لانهار السلم الاجتماعي ولتفككت الدول وضاعت معها إنسانية وحقوق المواطنين، كما تضيع الآن إنسانية اللاجئين السوريين بين أسوار وحدود الدول الأوروبية التي يحلو لبعضنا أن يصفها ب«العلمانية» و«الكافرة».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"