الحب المر بين واشنطن وبكين

01:22 صباحا
قراءة 4 دقائق
عاصم عبد الخالق 
اعتاد الدبلوماسيون والمحللون السياسيون أن يصفوا العلاقات الأمريكية الصينية بأنها الأهم في القرن الحادي والعشرين، ولديهم بالطبع مبررات عدة تدفعهم لهذا الاعتقاد. الصين هي القوة الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية البازغة في هذا القرن، وهي المنافس الأكبر والأهم للولايات المتحدة.

وإذا كان هناك من يعتقد أو يتوقع بأن شمس الإمبراطورية الأمريكية على وشك الغروب، فإن ذلك لن يحدث إلا لأن هناك إمبراطورية أخرى تشرق شمس حضارتها ومستقبلها من بكين.
وعندما تطأ قدما الرئيس الصيني تشي جين بينغ الأراضي الأمريكية يوم الخميس المقبل (24 سبتمبر/أيلول الحالي) في آخر زيارة دولة له في عهد نظيره الأمريكي باراك أوباما يكون قد مضى 36 عاماً على زيارة الرئيس الأمريكي الراحل نيكسون إلى بكين و43 عاماً على إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما. وهو ما يعني أن تلك العلاقات وصلت إلى مرحلة النضج، وأنها نجحت عبر تلك السنوات في ترسيخ التفاهم وتجاوز الكثير من الصعوبات والتحديات، وفتح آفاق تعاون يتسع حجماً ونوعاً يوماً بعد يوم.
غير أن هذا ليس أكثر من جانب واحد من القصة، لأن هذه العلاقات كانت وما زالت بعد كل تلك السنوات، تتأرجح بين التقارب والتباعد، والدفء والبرودة، والتفاهم والتنافر. وقل ما شئت من أوصاف تعكس حالة فريدة من التناقضات تميز هذه العلاقات منذ بدايتها وحتى الآن، وتجعلها ذات طبيعة خاصة ليس كمثلها شيء في العلاقات بين الدول.
ما يجمع بين واشنطن وبكين أكبر من شراكة اقتصادية، ولكنه أقل من تحالف سياسي. وهما ليسا عدوين ولا حليفين في الوقت ذاته. التنافس هو الصفة الغالبة على علاقاتهما، وهو للعجب ما يجمعهما ويفرقهما في الوقت نفسه. كلاهما يحتاج إلى الآخر. الصين أكبر مشترٍ خارجي للديون الأمريكية في صورة سندات، وفائض تجارتها مع واشنطن يناهز 315 مليار دولار سنوياً، إلا أنها تحتاج إلى التكنولوجيا والاستثمارات الأمريكية، وتحتاج إلى أن تظل الأسواق الأمريكية مفتوحة أمام منتجاتها.
وواشنطن من جانبها تدرك جيداً أن الصين أكبر وأهم من أن تتجاهلها أو تخاصمها. كما أن التباعد عنها يلقي بها في أحضان روسيا وتلك خسارة استراتيجية أمريكية كبيرة.
اعتادت الدولتان أن تمضيا سوياً على هذا الحال، أي تتعاونان مع احتفاظ كل منهما بهواجسه وقلقه وريبته إزاء الطرف الآخر. الصين تشك في أن شريكتها الرأسمالية تريد إقصاءها أو احتواء تمددها عالمياً بتأثير تفوقها الاقتصادي، وأنها أي أمريكا تسعى لتقويض نفوذها السياسي المتنامي. بينما تعتقد واشنطن أن صديقها الشيوعي اللدود أصبح مصدراً كبيراً للإزعاج لاسيما في منطقة آسيا والمحيط الهادي، وأنه يسعى لإخراجها من المنطقة والانفراد بالحلفاء الأمريكيين التقليديين هناك خاصة اليابان وكوريا الجنوبية. ويتخوف الأمريكيون كذلك من نوايا صينية غير معلنة لتغيير قواعد اللعبة السياسية الدولية، وحصار الهيمنة الأمريكية في العالم بشتى السبل بما فيها منافسة العملة الصينية للدولار كعملة احتياطية عالمية.
وبسبب تلك الشكوك المتبادلة فإن الخلافات بين البلدين واسعة، تبدأ برؤية كل منهما لدوره ودور الآخر في النظام العالمي، وطموحاته الإقليمية والدولية ودوره في المستقبل. وتتدرج بعد ذلك لتشمل الخلاف حول السياسة النقدية للصين وإصرارها على خفض قيمة عملتها، ثم الإنفاق العسكري الصيني المتزايد الذي يقلق واشنطن، والنشاط الصيني في بحر الصين الجنوبي. وفوق كل ذلك ما تعتبره واشنطن اختراقاً صينياً مستمراً لشبكاتها الإلكترونية والسطو على أسرارها العسكرية والاقتصادية.
وبقدر ما تباعد هذه الخلافات بين الدولتين، تجمعهما في المقابل أهداف مشتركة، منها محاربة الإرهاب، واستقرار أسواق المال، والاستقرار الأمني والاقتصادي في آسيا، والتعاون في مجالات الطاقة والتغير المناخي والتكنولوجيا.
كل هذه الخلافات والأهداف ستكون مطروحة بالطبع على مائدة التفاوض بين أوباما وبينغ هذا الأسبوع، ولديهما ما يشجعهما على العمل معاً سواء بدافع المصلحة أو بتشجيع من الإنجازات المشتركة الأخيرة، ذلك أنه بفضل الحوار بين البلدين أمكنهما أخيراً التوصل إلى اتفاق للخفض المتبادل لمعدلات الانبعاث الحراري وهي مشكلة ظلت معلقة بينهما طوال السنوات الماضية. وفي نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي حققت الدبلوماسية إنجازاً آخر بالاتفاق على ترتيبين لبناء الثقة، أولهما يقضي بالإبلاغ المتبادل عن الأنشطة العسكرية الكبيرة، والآخر يتعلق بإدارة الأزمات وآليات منع الصدام العسكري بحرياً أو جوياً بطريق الخطأ، ثم الاتفاق النووي مع إيران بمشاركة ومساعدة الصين.
والحقيقة التي يدركها الطرفان هي أن التنافس بينهما وإن كان يثير أحياناً أو حتى دائماً نوعاً من التوتر والشك المتبادل، إلا أنه لم يصل بالعلاقات أبداً إلى مرحلة العداء الصريح. كلاهما لا يثق في الآخر ولكن ليس من مصلحة أي منهما إلحاق ضرر بالغ بشريكه.
لن تستفيد واشنطن من انهيار الاقتصاد الصيني الذي سيفجر أزمات عالمية لا يمكن التنبؤ بها، كما سيطلق شرارة اضطراب ونزاعات مسلحة خطرة في آسيا. ولا يطمح الصينيون في إزاحة الولايات المتحدة عن عرش القوة الأولى في العالم، والقفز مكانها لأن هذا سيترتب عليه أعباء مالية وضغوط ومطالبات عالمية لا قبل لها بها، كما أن الطريق أمامها ما زال طويلاً لتحقيق هذا الهدف.
والصينيون هم الذين علموا العالم أن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، وهم يعتقدون أنهم لم يقطعوا حتى الآن أكثر من تلك الخطوة، وما زالوا في أول الطريق رغم المعجزة الاقتصادية التي حققوها، ورغم أنهم يمتلكون ثاني أكبر اقتصاد في العالم.


[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"