أوروبا والتحولات الفاشلة

03:16 صباحا
قراءة 4 دقائق

إن التحولات الجارية حالياً على الصعيد الأوروبي تخفي الكثير من الأزمات المستعصية على مستوى وعي النخب والشعوب في هذه "القارة العجوز"، فقد بلغ المشروع الذي بلورته شعوب المنطقة مداه الأقصى، وبدأت الانعكاسات السلبية التي أفرزها مسار الوحدة السياسية والاقتصادية، تؤثر بشكل لافت في المستقبل المشترك لدول الاتحاد، إلى الدرجة التي جعلت الكثير من المتتبعين للشأن الأوروبي، يؤكدون أن هناك نوعاً من الانفصام المؤسساتي داخل مجمل الدول الأوروبية، نتيجة الصراع المحتدم داخل كل دولة بين مشاريع الاتحاد والأجندات الوطنية، وبدأ هذا الصراع يولّد شعوراً ضاغطاً بأن هناك تنافساً غير متكافئ بين تصورين للدولة داخل الدولة الواحدة، وأضحت هذه المواجهة غير المعلنة تعيق تنفيذ الكثير من المشاريع التي تسعى المؤسسات المحلية المنتخبة إلى تجسيدها على أرض الواقع .
هناك في كل الأحوال وعيٌ متزايد لدى مواطني الدول الأوروبية، يشي مضمونه بأن مشروع الوحدة بدأ ينحرف عن مساره، وأن الدول المؤسسة له باتت تفقد تدريجياً القدرة على التحكم فيه، بعد أن تمكنت المؤسسات الاقتصادية الكبرى من فرض تصورها المتعلق بمستقبل الاتحاد، إلى المستوى الذي لم يعد يخضع فيه أمر توسيعه لترتيبات وآليات متفق عليها من قبل المؤسسات السيادية . وبخاصة بعد أن أضحى أمر توسيع السوق الداخلية للاتحاد، يمثل الأولوية الكبرى بالنسبة للاحتكارات الأوروبية التي تهيمن عليها أسواق المال في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، بتحالف وثيق مع كبريات الشركات الأمريكية العابرة للقارات، لأن من يمتلك ويتحكم في سوق داخلية يصل عدد المستهلكين فيها إلى ما يقارب ال 500 مليون نسمة، يمكنه أن يفرض على المدى المتوسط نموذجاً احتكارياً جديداً على مستوى العلاقات الاقتصادية الدولية .
إن مبالغة النخب الأوروبية في نقد ما سمي بشمولية الدولة في مطلع القرن الماضي، أدى بهم إلى السقوط في شمولية من نوع آخر تعتمد على الأنساق الجماعية التي تهدد الهويات الوطنية وتخلق طغياناً يصعب تحديد مركزه ولا الأطراف التي تتحكم في إدارته على وجه التحديد . ولا نعتقد في كل الأحوال أن العدالة الاجتماعية التي ضمنتها دساتير الدول الوطنية، يمكنها أن تحظى بالاهتمام نفسه بالنسبة للداعمين والمروجين لهذه الأنساق المُغفلة .
ونزعم في هذا السياق أنه من الصعب أن يكون للحركات الاجتماعية الناشئة في خضم هذه الأجواء المعقدة، التي تتعدد فيها مراكز القوى وتتجزأ في سياقها مناطق صناعة القرار وأجنحة السلطة، تأثير حاسم في مجرى الأحداث وفق ما كان يحدث في القرن الماضي . ويتسبب هذا العجز المزمن الذي يُميّز حركات التحول الاجتماعي والثقافي، في نشوء مزيد من الحركات الهامشية والمتطرفة التي يسهل شيطنتها وتقويضها نتيجة لعجز خطابها على استقطاب مجموعات كبيرة من الطبقة المتوسطة، التي ترفض أن تصطبغ تحركاتها ونشاطاتها بصبغة راديكالية أو عنصرية .
نلاحظ في السياق نفسه أن هناك في المقابل من يروجون لمواطنة افتراضية عابرة للحدود، على حساب مواطنة حقيقية يضمنها العقد الاجتماعي للدول الوطنية، وهي المواطنة التي استطاعت أن تترسخ تدريجياً عبر سنوات طويلة من النضال المشترك، وأصبحت تستند إلى مشروعية أكيدة تضمنها الهوية الوطنية القائمة على أسس اللغة والانتماء الوطني والثقافي المشترك . ونعتقد فيما يخصنا أن الدولة الاجتماعية الراعية القائمة على أسس ديمقراطية وتشاركية، لا يمكن أن تتحول إلى كيان تابع لنسق أكبر يعتمد على معطيات اقتصادية صرفة، تهتم بشكل أساسي بمعايير المنافسة من أجل تحقيق مستويات أكبر من الربح المادي . ولعل الاضطرابات التي حدثت في إسبانيا وإيطاليا وتحديداً في اليونان، والتي دفعت مواطني هذه الدولة إلى التنديد بألمانيا وبمجموعة بروكسل، رمز مؤسسات الاتحاد الأوروبي، يؤكد أن مشاريع الوحدة المتعسفة لا يمكن أن تنجح، وأن ما قدمته أوروبا من قروض مشروطة لليونان لا يعدو أن يكون محاولة من أجل تأجيل موعد الانفجار الحتمي .
وفي السياق نفسه يمكننا أن نفسر التركيز السياسي والإعلامي الكبير من قبل القادة الأوروبيين على حركة جزءٍ من المعارضة الأوكرانية، ونعتقد أنه يندرج في سياق محاولة المنتفعين من مؤسسات الاتحاد، التغطية على الإخفاقات المستمرة لهذا التكتل من خلال الهروب إلى الأمام والتوسع أكثر نحو الشرق، من أجل محاصرة روسيا بغرض إضعافها والاستفادة - في مرحلة لاحقة- من الثروات الكبيرة التي يزخر بها هذا البلد - القارة، الذي أضحى يلعب مؤخراً دوراً محورياً ومشاغباً على مستوى السياسة الدولية بعد تراجع الحضور الأمريكي في الكثير من مناطق العالم .
إن الغرب ممثلاً في أوروبا والولايات المتحدة، يريد أن يقدم وصفة إلزامية لمجموع دول العالم مفادها أن التطور والتنمية المستدامة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتجربة السياسية التي خاضتها دوله، ولا غضاضة في أن يدفع بقية العالم ثمن أخطائه من أجل أن يستمر هذا النموذج السياسي، الذي يظل يمثل - بحسب قناعاته - التجربة الديمقراطية الوحيدة الممكنة، ولا يجوز لأي تعديل في مساره أن يُعتمد إذا لم يتم تبنيه بداية من طرف المجتمعات الغربية . لذلك فقد وصف الإعلام الغربي الاصطلاحات التي اعتمدتها الصين مؤخراً، بالقصور معتبراً إياها مجرد تجميل للواجهة الحقيقية للنظام، لأنه يرى أن النظام الوحيد الذي يُمكن أن يحقق التقدم والرقي هو النظام الذي يتبناه هو لا غير . وبالتالي فإن نجاح الصين في تحقيق تطور هائل في زمن قياسي يُرسل في نظره رسائل "خاطئة" للدول التي يريدها أن تتحول إلى كيانات فاشلة تعتمد نماذج سياسية متهافتة من شأنها أن تهدد السلم الأهلي والاستقرار الاجتماعي . ونحسب في هذه العجالة، أن الغرب الحالي بات رمزاً لليبرالية الجديدة التي تتقبل بأريحية كبيرة اتساع الفوارق الاجتماعية بين المواطنين، ولا ترى مانعاً في أن ينتفع جزءٌ من الشعب بخيرات الدولة ويعيش البقية في نوع من الهشاشة الاجتماعية المزمنة، حتى لا تتحمل الدولة جزءاً كبيراً من الأعباء الاجتماعية، التي من شأنها أن تؤثر سلباً في مستوى المنافسة الاقتصادية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"