المطوّلات والجمهور

00:19 صباحا
قراءة 3 دقائق
مع تطور الحياة الأدبية واختلاف الذائقة الإنسانية أصبحت الأذن الواعية تقبل الاستماع إلى الشعر الجيد الذي يكتنز الفكرة ويصرح بالمضمون في أبيات لا يمل منها السامع، لكن إصرار بعض الشعراء القدامى الذين تعودوا على كتابة القصيدة التقليدية بروحها القديمة يضعون أنفسهم في مواجهة غير متكافئة مع الجمهور عندما يلقون قصائد من ستين بيتاً تقل قليلاً أو تزيد، وهو ما يجعل الجمهور يصرخ ولسان حاله يقول «ارحمونا من هذا الشعر القاسي» كما كان محمود درويش يصرخ في وجه محبيه «ارحمونا من هذا الحب القاسي» مع الفارق في التجربتين، ومن المؤلم حقاً أن تجد هؤلاء الشعراء يعيشون في دروب متشعبة ويحاولون أن يسيروا في منعطفات وعرة لا تعبر عن روح الكلمة وجمال القصيدة العربية، فليست عظمة الشاعر تقاس بالمطولات ولا بالقصائد القصيرة، إذ الأهم أن تحمل القصيدة فكرة وتستطيع بمساراتها أن تقترب من روح المتلقي، وهذا هو الشيء الضروري في تقديري، وقد لاحظت أنه ليس هناك أصعب من تغيير القناعات ومحاولة تقريب الصورة لهؤلاء الشعراء الذين ينفر منهم المتلقي ويشعر الجمهور معهم بالعذاب الحقيقي وهم ينشدون قصائدهم الطويلة التي تتكرر فيها الفكرة ويكثر فيها الحشو وتدور المعاني حول بعضها بعضاً بشكل نمطي لا إبداع فيه ولا دهشة.
من المهم حقاً أن نستفيد من التجارب السابقة علينا، وأن نمتلك القدرة على التغيير ونطوع المعاني ونسوقها بأسلوب شعري وهذا دليل تمكن، ولا يأتي التمكن من القصيدة إلا بالدربة حتى يصل الشاعر إلى مفاتيح القصيدة من أقصر الطرق، لكن يتصور بعض الشعراء أن التمكن الحقيقي لا يظهر إلا بكتابة المطولات وهذا اعتقاد يجانبه الصواب، إذ الشاعر يستطيع أن يكتب في فترة من حياته قصائد فيها نوع من الفحولة وإبراز القدرة بكثرة الأبيات، لكن ليس من الضروري أن يكون هذا خطه الذي يسير عليه دائماً، فالشعر أرحب من ذلك، والجمهور لم يعد قادراً على الاستماع إلى هذه المطولات، ويريد قصائد مكثفة تعبر عن الشعر الحقيقي، وأعتقد أن من المستساغ أن يقرأ الجمهور قصائد مطولة، لكن أن يستمع إليها في أمسيات شعرية فهو أمر صعب، والمعضلة الكبرى أن أبناء الجيل القديم أو بعضهم لا يتقبل فكرة التكثيف حتى لا يقع في فخ التكرار، ومن ثم يجد قصيدته فقدت المعنى والدهشة وابتعدت عن جوهر الشعر المصفى.

إنني لا أبخس حق هؤلاء الشعراء ولا أعرّض بهم، لكن أذكر في تراثنا العربي أن حكمة الخليفة العباسي مع الشاعر علي بن الجهم جعلته يغير قناعاته وينسجم مع المكان والزمان ويكتب رائعته:

عيون المها بين الرصافة والجسرِ
جلبنَ الهوى من حيث أدري ولا أدري
إلى أن يقول في مدح الخليفة:
وَما كُلُّ مَن قادَ الجِيادَ يَسوسُها
وَلا كُلُّ مَن أَجرى يُقالُ لَهُ مُجري

ومن خلال تجربتي العميقة مع الشعر والجمهور أصبحت أضع يدي على الكثير من المشكلات التي تعترض هؤلاء الشعراء، وقد أكون منصفاً حين أقول عن إيمان حقيقي، إن بعض هؤلاء الشعراء يختزل مسيرة الشعر العربي ويمتلك مفاتيح وأسرار كتابة الشعر، وهو ما يؤهلهم إلى إدراك حقيقة العصر واستثمار هذا الرصيد الكبير من الاطلاع والقدرة على كتابة قصائد متجانسة مع العصر ملائمة لماهيته، عصرية بالمعنى الحقيقي حتى ولو حملت في طياتها الأسلوب التقليدي المتعارف عليه في الشعر، وأعتقد أن الوقت الراهن يتطلب من الشاعر أن يدرك طبيعة التطور في الإبداع الشعري وضرورة اكتشاف نفسه من جديد وتأكيد حضوره بشكل متجدد.

محمد عبدالله البريكي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"