اليوم التالي . . بعد “العاصفة”

04:28 صباحا
قراءة 7 دقائق
"عاصفة الحزم"، قد تطول أكثر من اللازم، وقد تتطور، وقد تتناسل مفاجآت وتحولات، ومن المؤكد أن الطائرات والمدافع وحدها غير كافية لمعالجة ناجعة للأزمات والاختلالات في المنطقة .
لكن في كل الأحوال، فإن هذه "العاصفة"، تشكل منعطفاً تاريخياً مهماً في السياسة والدبلوماسية، والأوزان والمعادلات، خاصة إذا ذهبت "العاصفة" إلى آخر مدى عسكرياً وسياسياً وتنموياً، وأنتجت فكراً وتفكراً "خارج الصندوق" .
وبداية، لا بد من الإقرار، بأنه لولا هذه "العاصفة"، لما كانت قمة شرم الشيخ مختلفة عن قمم سبقتها، ولما ارتفع منسوب الحديث عن الأمن القومي العربي، والتفكير الجاد في مسألة خلق "قوة عربية مشتركة" دائمة، للتدخل السريع، ضمن تشكيلات الجيوش العربية المشاركة في هذه القوة، موحدة التدريب والزي، بقيادة مشتركة، ومناورات مشتركة، تتمركز في دولها، وتُستدعى عند الحاجة، وبناء على طلب من الدولة التي تعاني أزمة أو إرهاباً يهدد استقلالها وسيادتها وسيادة أراضيها ونسيجها الاجتماعي .
لكن هذه "القوة" وحدها، ليست هي الترياق، قوة (الناتو) لم تكن تكفي، إلا حينما رافقها مشروع تنموي متكامل، وإرادة واعية، أدركت، أن الأمن الجماعي يتقدم على مساحات ومفاهيم ذات طابع "سيادي" .
إن تهديدات الأمن القومي العربي، لا تنحصر بالمخاطر العسكرية فقط، وإنما تشمل تهديدات سياسية واقتصادية وتنموية واجتماعية وهوية، وتحديات ومتغيرات جارفة في الراهن والقادم من الأيام، ومن بينها أيضاً الاختراق الخارجي، وتغول الاحتلال "الإسرائيلي"، وما نراه ونلمسه من مخاطر دول مفككة، وحدود منتهكة، وجيوش متهالكة، وشعوب خائفة وتائهة ومتقاتلة، وأسراب متوحشة من الظلاميين عابرين للحدود، وقوى سياسية شاخ بعضها، وضلّ أكثرها، وتحوّلت الأرض العربية إلى ساحات للعنف والاستنزاف واليأس والشقاء والنزوح .
واستدرج كل ذلك، دول الجوار الجغرافي التي حضرت وهي تهجس باستعادة أمجاد إمبراطوريات سادت ثم تقلصت إن لم نقل بادت، وتشجعت على تغيير موازين وملامح وخرائط المنطقة .
المهم الآن، هو وقف الانحدار العربي، واستجماع طاقات عربية أساسية، لمواجهة هذا الطوفان، والتعامل مع هذه الزلازل ومع ارتداداتها، برؤية استراتيجية شاملة .
إن الحديث عن الإصلاح الوطني، على أهميته، ما عاد مطروحاً، لا من الخائفين عليه، ولا من المعارضين له، ومن لم يتعلم من دروس سنوات ما سمي "الربيع العربي" وما تسببته من دماء واستنزاف وخوف وتدمير للحاضر والمستقبل، ليس أمامه إلا تجرع السم، ما دامت تداعيات هذه الزلازل تسوره من كل جانب، ومع ذلك يواجهها بالمكابرة والجهل .
من حقنا كعرب، قابضين على جمر عروبتنا، أن ندافع عن وجودنا ومصالح أمتنا وأجيالنا القادمة، وعن الإمساك بمصيرنا واسترجاع استقرارنا وسيادتنا . من حقنا على جيراننا، أن نتعايش معهم، وأن نتعاون ونتبادل ونتواصل، وأن تكون حدودنا محروسة بالتفاهم والثقة المتبادلة، لا بالتسلل والاختراق والاشتباك، واصطياد الفرص للعب في "مياه" الفوضى العكرة .
من حقنا أن نتحدث عن "الأمن الخليجي"، باعتباره مسألة خليجية عربية بالأساس، في إطار منظومة مجلس التعاون، وهو في الوقت نفسه، نظام فرعي داخل نظام الأمن القومي العربي، من حقنا أن نطالب بإعمال الالتزامات العربية تجاه هذا الأمن، وببث الروح في المؤسسات العربية الأمنية والدفاعية، وخاصة معاهدة الدفاع والتعاون الاقتصادي المشترك، وما يرتبط بها من أجهزة مثل مجلس الدفاع العربي، واللجنة العسكرية الدائمة .
من حقنا على جيراننا، في الضفة الأخرى من الخليج العربي، أن يدركوا، أن محاور "الأمن الخليجي"، تشمل تكاملاً خليجياً، وسياسات دفاعية مشتركة، وأبعاداً داخلية للأمن، وشراكات استراتيجية مع أشقاء وأصدقاء، فضلاً عن أبعاد مدنية داخلية، إنه أمن مجموعة دول تنتمي إلى قومية واحدة، وتجمعها مصالح مشتركة، ومصير مشترك .
ومن حقنا على جيراننا هؤلاء، ألا يخلطوا بين مفهوم الأمن الخليجي لمنظومة مجلس التعاون، ومفهوم "الأمن الإقليمي للخليج"، ولإيران موقع مهم في ترتيباته، وكذلك العراق .
ولنسأل جيراننا، ألم تعارض إيران "إعلان دمشق"، غداة تحرير الكويت من الاحتلال العراقي في عام ،1991 من خلال رفضها لمشاركة مصر وسوريا في أمن الخليج، لكنها قبلت - واقعياً - بالوجود الأجنبي غير العربي في أمن الخليج؟ ألم تربط إيران بين مفهومي أمن الخليج وأمن آسيا الوسطى، على اعتبار أن كليهما مجال حيوي لإيران؟ لقد تمنى عرب كثيرون لو أن إيران أقبلت وقتها على "بلاد ما وراء الهضبة الإيرانية" باتجاه آسيا الوسطى، وتفاعلت بتواضع ومن غير استكبار مع حوض الخليج العربي، بعيداً عن أوهام الهيمنة واقتناص الفرص، وتكريس الحس المذهبي في مجتمعات عربية عديدة، واستحضار أحلام إمبراطورية، وارتكاب حسابات خاطئة في العراق واليمن بشكل خاص، والإصرار بعناد فج، على الترفع عن الحوار المنتج والجاد مع منظومة مجلس التعاون، والحرص على التعامل الثنائي والمنفرد مع دول الخليج العربية .
لقد ارتكبت إيران مجازفة خطرة في اليمن، حينما انفلتت شهيتها لتوسيع النفوذ، من عقالها، وظنت أن سقوط صنعاء وعدن وباب المندب، مستند إلى نجاحات لها سابقة، اخترقت فيها خطوطاً حمراً في أكثر من مكان من دون أن تواجه هجوماً مضاداً . تحركت في فراغ (لنا كعرب دور في إنتاجه)، ولقوى أمريكية وغربية، بوعي أو من دون وعي، دور في تشكيله وصياغته (العراق مثلاً) .
في اليمن، لم تحسب إيران أن اليمن كجغرافيا وتاريخ وديموغرافيا وهوية، هو في خاصرة منظومة مجلس التعاون، ويصعب تطويق هذه المنظومة بعراق متشظ، لإيران فيه أكثر من قدم، وبيمن قبلي "ميلشيوي" . "سيد" مغرور يحسب أنه وريث "إمامة" معاصرة متمذهبة سياسياً، حليفه في الداخل الجهل والفساد، والمنتقم الباحث عن الثأر عن تحويل اليمن إلى جزر متكارهة ومكونات متحاربة، ومعه إيران المصرة على وضع اليد على ملف اليمن، وربما في الزمن القادم مقايضته بالملف السوري . . في لعبة ميكيافيلية، لا تعرف الإنصاف ولا إجراءات بناء الثقة المتبادلة، ولا أبسط حقوق العربي في سوريا والعراق واليمن، في التخلص ممن سرقتهم عقدة الهويات المذهبية المسورة بالدماء .
تجاهلت إيران وتابعها في اليمن، توازنات التركيبة اليمنية، وحساسيات الخريطة الجيوسياسية اليمنية، وغضت الطرف عن فاسد يعيش يومه للثأر، ويحلم بالعودة إلى القصر ولو على جثث اليمنيين . ويسهِّل للحوثيين التهام صنعاء والجيش والسلاح والمؤسسات . . ويرد الجميل بالإساءة، لمن حماه ومنحه الحصانة، أقصد هنا، المبادرة الخليجية، التي أصرت على الإبقاء على (علي عبدالله صالح)، ومنحت الحضور السياسي لحزبه، واستمرار نفوذه المالي والقبلي في الجيش والدولة .
نعم . . ها هي عملية "عاصفة الحزم" مستمرة، ولعلها ليست عاصفة غضب، أو مجرد يقظة مفاجئة لاستدراك تدهور الأوضاع في اليمن، اضطراراً . . للعاصفة أكلاف كبيرة، وربما ممتدة في المكان والزمان . . فاليمن على درجة عالية من التعقيدات المناطقية والسكانية والقبلية والولاءات الضيقة، فضلاً عن الجغرافيا والفقر والاختراق، و"القاعدة" و"الدواعش"، وجماعة الإخوان المسلمين، والقوى السياسية المتعددة، وأحلام الانفصال والتجزئة والتشطير والثأر . . إلخ .
المهم والضروري، التفكير في "اليوم التالي"، معظم الخطط العربية السياسية منذ زمن طويل، لا تفكر في "اليوم التالي"، ونعني به هنا، ضرورة وجود "سكة" سياسية موازية، "للسكة" العسكرية، أثناء توقف "العاصفة" وبعدها .
السياسة الحكيمة والرشيقة والواعية والواقعية، مطلوبة الآن قبل الغد . ونحتاج فيها إلى رؤية للمعالجة السياسية للأزمة اليمنية على أسس جديدة . وفي إطار رؤية سياسية واقعية للأمن القومي العربي، وللعلاقات المتبادلة داخل الإقليم . ونقدم فيها أنفسنا كعرب، وكلاعب مقنع، يتراجع أمامه أصحاب شهوات الاختراق والاستهزاء، ويوقف فيها الاستهتار الغربي والإيراني والتركي بالمصالح العربية، ونفتح من خلالها أبواب الحوار والتفاوض حول ترتيبات الأمن والسلام الإقليمية، ونستعيد التوازن في المنطقة .
"اليوم التالي"، هو في كيفية استعادة الشعب اليمني لوحدته ومقدراته، ومصيره، وتعزيز السلم والاعتدال وثقافة التسامح في تعليمه وثقافته وعلاقاته الداخلية .
"اليوم التالي"، هو باحتضان "الزيديين"، كأبناء وطن، ومكون من مكونات المجتمع منذ أكثر من ألف عام، وعدم السماح (بالتشريع والممارسة)، بتغول خصومهم السلفيين، أو الإخوان المسلمين عليهم، كما حصل خلال العقود الثلاثة الماضية .
"اليوم التالي"، هو "مشروع مارشال" عربي، يعيد بناء يمن جديد، خال من الفقر والظلم والاقتتال والتخلف .
يمن له مكانه الطبيعي، والمشارك في منظومة أمن الجزيرة العربية والخليج، لا مظلومية لأحد أو لمحافظة أو لشطر فيه .
يمن حديث، يشرب ماء مأموناً، ويزرع قمحاً وسلاماً وأمناً، ويحصد تعاضداً وشراكة مع أشقائه وجيرانه، ويحرس شواطئه وبواباته، ويؤسس لحياة ديمقراطية تشاركية .
"اليوم التالي"، هو ردع القادمين من كهوف الظلام، وصيانة استقلال وسيادة وسلامة أراضي اليمن، وتنمية إمكاناته وثقافته .
"اليوم التالي"، هو كيف نؤسس لواقع جديد، في العلاقات مع إيران، تعيد إيران فيه النظر في حساباتها، وفي اتخاذ مواقف أكثر واقعية، وتشجع كل أطراف الصراعات الجارية في الوطن العربي، للبحث عن تسويات عادلة ودائمة، في أكثر من مكان، وتدفعهم إلى طاولة الحوار والتفاوض والتسويات .
"اليوم التالي"، هو في عدم جواز أن يدغدغ شهية تحالف العاصفة أثناء تقدمها في اليمن، الانتقال إلى مواقع أخرى خارج اليمن، هناك حسابات أخرى مغايرة، وهناك تركيا التي تتمنى أن تنتقل هذه "العاصفة" إلى سوريا، وهناك جماعات الإسلام السياسي المعروفة، التي تتمنى وتلح، على "العاصفة" وحتى على تركيا، للانخراط في حروبها التي مزّقت سوريا وليبيا، وهددت مصر وشغلتها .
"اليوم التالي" . . هو اليوم الذي نستعيد فيه كعرب، دور اللاعب، ولا تتحول فيه بلادنا إلى ملاعب . . و"اليوم التالي" هو أن نكف النظر إلى ساعاتنا . . نعم . . لدينا في أيدينا "عاصفة" . . قد لا تنتهي الأزمة في أسبوع أو شهور أو سنة . . المهم أن تكون في أيدينا أيضاً استراتيجية لليوم التالي . . للحظة الحقيقية .


د . يوسف الحسن

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"