وداعاً يا أم الرجال

03:57 صباحا
قراءة 3 دقائق

هي امرأة ليست ككل النساء، امرأة أنجبت رجالاً وكانت أماً لكل من عرفها وعايشها . ولو عدنا بالزمن إلى الوراء لرأيناها فتاة متمسكة بمبادئها فلا تحيد عنها، تدافع عن الحق وتكره الظلم، فتاة شجاعة وجريئة تحكم على الأمور برجاحة عقل وحكمة .

ترعرعت تلك الفتاة قبل قيام الاتحاد، يوم كانت الإمارات لا تزال خاضعة للنظام القبلي بكل عاداته وتقاليده . في ذلك الوقت، كان زواج الفتيات القاصرات أمراً طبيعياً، وكان تعدد الزوجات مظهراً من مظاهر غنى الرجل وقدرته المادية على الإنفاق، وكانت المرأة قانعة بكل ما يقدمه لها زوجها . لكن تلك الفتاة تحدّت عادات مجتمعها، ولم توافق على الزواج المبكر، ورفضت أن تكون ملكاً للرجل يتحكم بها كيفما يشاء .

قررت أن تربي ولديها بمفردها، وشب الولدان في ظل أم قوية وحكيمة، وصارا رجلين بكل ما للكلمة من معنى ليقوما بدور أساسي وجوهري في بناء المجتمع الإماراتي المتحضر كما نعرفه اليوم .

لقد عرف الناس هذين الابنين جيداً، لكنهم لم يعرفوا تلك الأم العظيمة التي كانت وراء بناء هاتين الشخصيتين . إنها جدتي، أول امرأة عرفتها تدافع عن حقوق المرأة، وتتحدث عن كبريائها واعتدادها بنفسها وعن كرامتها في وقت كان مجرد التفكير بأمور مماثلة يعتبر من المحرمات .

كانت جدتي تؤمن بأن التعليم من أعظم الحقوق التي يجب أن تحظى بها المرأة، وأن استقلالها حق عليها التمسك به ليس من أجل المظاهر فقط .

ترعرتُ في كنف جدتي، وحين كنت طفلة، كنت أصغي إلى حكاياتها عندما كانت لا تزال فتية، وكيف كانت مضطرة إلى تربية ابنيها في ظروف صعبة لم يساعدها فيها سوى والدتها . كانت تتحدث والدموع تترقرق في عينيها عن الفترة التي اضطرت فيها إلى إرسال ولديها إلى دولة الكويت ليتلقيا العلم الذي لطالما تشوقت لتنهل منه .

كانت تقول وقلبها منفطر إنها كانت تحلم بعودتهما في وقت لم يكن فيه وسيلة للتواصل سوى رسائل تصل بالبريد لم تكن تستطيع قراءتها .

كانت جدتي - رحمها الله - تحب الحياة والناس . . كانت تقول الشعر وتترنم بالألحان، وكانت خفيفة الظل تتسم بروح مرحة رافقتها إلى حين صعدت روحها إلى بارئها .

لقد تعلمت من جدتي كيف أترجم أفكاري إلى كلمات، وتعلمت كيف أدافع عن الحق بكل احترام وأدب من دون أن أجرح مشاعر الآخرين، وأن أتقبل وجهات نظرهم .

جدتي كانت أماً لكل الناس، وكان الجميع يعتزون بمناداتها ماما شيخة، ومهما قلت فيها فإنني لن أوفيها حقها، فقد كانت الجانب المشرق والعظيم في حياتي . لقد كانت صلتي بعالم لم أعشه أبداً لكنني أحسسته وأحببته في نظرات عينيها .

ماما شيخة لقد تركتِ فراغاً هائلاً في دنياي . إني أفتقدك كثيراً، فقد كنت جزءاً من كياني وغيابك لن يعوضه أي شيء في الوجود .

أعرف أن الموت حق، وأعرف أننا جميعاً سنموت، لكنني لا أستطيع أن أزيل الألم الذي يعتصر فؤادي لرحيلك، فهذا أقسى من أن يحتمل .

هكذا الموت يأتي فجأة، إنه المصيبة التي نستسلم لها شئنا أم أبينا وليس من مفر منها ومن قسوتها .

قبل أحد عشر عاماً، فقدت جدتي ابنها البكر، تمزقت لرحيله وكادت روحها تنسل من جسدها، ومنذ وفاته لم تعد كما كانت . وبعد أحد عشر عاماً عاشتها جدتي في عذاب الفراق، وقبل ذكرى وفاة ابنها بأسبوع واحد فقط، اختارها المولى سبحانه وتعالى ففارقتنا . وكما كانت خفيفة وهادئة في حياتها، كانت كذلك في لحظات وداعها .

كانت جدتي إلى جانبي عندما أبصرت النور وأتيت إلى الدنيا، وكنت إلى جانبها عندما أغمضت عينيها وفارقت الدنيا .

ماما شيخة جدتي لوالدي، كانت وستبقى أقوى امرأة عرفتها في حياتي .

وداعاً جدتي، تغمدك الله برحمته وأسكنك فسيح جناته .

حفيدتك عائشة عبدالله عمران

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"