عادي
قراءات

«عقل غير هادئ»...الحب لقاح الجنون

00:15 صباحا
قراءة 3 دقائق
1701
لوحة الصرخة
لإدفارد مونش

لماذا يكثر الحديث عن الجنون والأمراض النفسية في العصر الحديث؟، هو بلا شك عصر ينتشر فيه القلق بصورة كبيرة، ذلك الناتج عن الإحباط والمعاناة النفسية في ظل اللهاث وحياة السرعة والعزلة، فتلك هي سمات وقتنا الذي يسود فيه التنافس والرغبة في الحفاظ على الوظيفة والعمل، فطرائق العيش والحياة الحديثة تقود بصورة مباشرة إلى نمو القلق الذي من الممكن أن يتحول إلى مرض نفسي أو جنون كامل.

من أشهر الفلاسفة الذين تناولوا الأمراض النفسية كظاهرة هو ميشيل فوكو، في «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»، والذي رصد بصورة موسعة كل الممارسات المتعلقة بالجنون في تاريخ الغرب وحتى العصر الحديث، والتي تشمل الفنون والآداب والرؤى والأفكار المختلفة، مما فتح الباب واسعاً لتناول الجنون من قبل المهتمين والأطباء النفسيين في مؤلفات عديدة باعتباره مرض العصر.

وعلى الرغم من انتشار الاعتلال النفسي، في وقتنا الراهن، إلا أن القليل من المصابين هم من أقدموا على الحديث عن معاناتهم، فالسلطة الاجتماعية التي تتعامل مع المرض النفسي كوصمة وعيب، وربما عار، أجبرت الكثيرين على ابتلاع آلامهم وعدم التعبير عنها أمام الآخرين، لكن الدكتورة والأكاديمية المتخصصة في علم النفس كاي ردفيلد جاميسون، التي وقعت أسيرة الداء النفسي، استطاعت أن تكسر حاجز الصمت عبر كتابها «عقل غير هادئ... سيرة ذاتية عن الهوس والاكتئاب والجنون»، وهو سرد جريء وشجاع مع داء «الاضطراب الوجداني ثنائي القطب»، والذي يعرف أيضاً باسم الاكتئاب الهوسي، وهي حالة صحية عقلية تتسبب في تقلبات مزاجية مفرطة، حيث يقع المريض فريسة اليأس والحزن وفقدان الاهتمام والاستمتاع بأي شيء، كما أن المصاب يتعرض كذلك للتقلبات المزاجية من الابتهاج إلى الغضب، وذلك الأمر يؤثر بشدة في النوم، والطاقة، والنشاط، والقدرة على اتخاذ القرارات، والسلوك والتفكير بوضوح، وباختصار، فإن الحياة تتحول إلى جحيم في نظر المريض.

لقد قررت جاميسون مواجهة المرض، وأرادت أن تعالج نفسها، فقررت أن تحكي بلغة شاعرية، وذلك ميدان تجيده لكونها شاعرة، وتصف للقراء تلك الرحلة المستمرة من لحظات الصحو التي تقضيها في التحليق في عوالمها الجميلة حيث اهتماماتها بالفنون والأدب وكتابة الشعر، ثم النكوص مجدداً إلى دنيا الكآبة وظلام الجنون، والرغبة الملحة في التخلص من الألم، ووضع حد للمعاناة.

والكتاب لا يتحدث فقط عن جاميسون المريضة، بل وكذلك الطبيبة، فهي تؤكد أهمية التواصل مع المصابين بمثل هذا النوع من المرض النفسي القاتل، لأنه يلح على صاحبه لكي ينهي حياته عبر الانتحار، لذلك فإن الكاتبة تقدم العديد من الوصايا للأطباء في المجال، فلابد للمعالج من أن يأخذ بيد مريضه، وأن يتفهم معاناته ومساعدته في فهم ذاته، فالمرض الذي يصيب النفس لا يختلف عن الذي يلم بالجسد، وإن كان يتفوق عليه في شدة الألم وقسوته، والكاتبة تحرض كذلك المرضى بأن يحذوا حذوها في التحدث والبوح عن معاناتهم مع المرض، فعلى الرغم من كونها طبيبة وأكاديمية بارزة، إلا أنها قررت أن تحكي عن تجربتها مع الداء النفسي إلى الناس غير آبهة بما سيحدث جراء صراحتها في تناول تجربتها في كتاب.

كتبت جاميسون عن شقائها مع المرض، وتناولت تقلباتها المزاجية الحادة وأثر كل ذلك على حياتها، لكن أمراً ما حدث أثناء شروعها في الكتابة، فقد وجدت نفسها قد أنجزت كتاباً كبيراً عن الحب، تقول عن ذلك: «لقد تحول بطريقة درامية ليكون على نحو كبير كتاباً عن الحب أيضاً، الحب كعامل مؤازر، والحب كعنصر مجدد، والحب كأداة للحماية، فبعد كل ما بدا أنه موت في عقلي أو قلبي، عاد الحب ليعيد خلق الأمل ويسترد الحياة، لقد استطاع في أحسن حالاته أن يجعل الحزن الذي ورثته في الحياة أكثر تحملاً».

انتصرت جاميسون على ذلك الداء اللعين بالحب، فقد أتاح لها الكتاب فرصة أن تغوص عميقاً في نفسها، وتكتشف كل المناطق المظلمة، وقد فعلت كل ذلك، كما تقول، بإحساس رومانسي، لقد عاشت تفاصيل حوار داخلي من أجل اكتشاف حقيقة ذاتها، وقد حررتها تلك الطريقة من قبضة المرض القاتل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"