مكتسبات سياسية يمكن البناء عليها

03:01 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

لا يجحد أحدٌ حقَّ المعارضات العربيّة في نقد أوضاع الحرّيات وحقوق الإنسان في بلادها، خاصّة إن كانت من نوع المعارضات التي تتوسّل طرقاً سلميّة في التعبير عن نفسها. يمكن مؤاخذتُها على الزعم بأنّها ذات مشروعٍ سياسيّ ديمقراطيّ بديل، فيما هي لا تملك رؤيةً وبرنامَجَ عملٍ حقيقيّاً، ولا تملك قاعدةً اجتماعيّةً - سياسيّة تكون منها بمنزلةِ الحاملِ الماديّ للمشروع السياسيّ؛ ويمكن مجادلتُها في نوع خطابها السياسيّ الدعويّ وركوبها مَرْكب الشعبويّة في نشاطها التعبويّ، بل يمكن حتى الطعن في مدى قدرتها التمثيليّة لبيئات اجتماعيّة شعبيّة حاضرة في خطابها لفظاً، لكنّها (البيئات الاجتماعيّة) برّانيّة عن عالمها واقعيّاً...إلخ، مع ذلك، ليس لأحدٍ أن يجادل في حقّها في إبداء الرأي النقديّ في أوضاع السياسة والمجال السياسيّ في بلدانها؛ لأنّ ذلك - ببساطة - من مبرّرات وجودها كمعارضات تحتاجُ السياسةُ، في بلدانها، إليها وإلى أدوارها حتى يستقيم لها التوازن الذي ما من بدٍّ منه لها. ولكنّ أكثر ما يؤخذ على المعارضة، في العالم العربيّ، ما يَغشى فكرَها ورؤاها إلى الأوضاع السياسيّة من سلبيّةٍ وعدميّة، في كثير من الأحيان، فتبدو كما لو أنّها - بتحليلاتها ومواقفها- لا تبني وعياً أو تعبّئ الناس على مبدأ، بقدر ما تنشر السوداويّة وتشجّع على اليأس حین تُصوِّر لجمهورها أفقاً كالحاً مسدوداً!
ما من شكّ في أنّ ما يصدُم المعارضة ويؤسّس لها مفرداتها النقديّةَ واقعيّ لا افتراضيّ؛ من ضِيقِ المجال السياسيّ على نخبةٍ ضيّقة، إلى مصادرة السياسة والحرّيات، إلى انعدام الحياة التمثيليّة أو صوريّتها، إلى فقر السلطة القضائيّة إلى أيّ استقلاليّة، إلى انتهاكات حقوق الإنسان، إلى تزوير الانتخابات والعدوان على الإرادة الحُرّة للناخبين، إلى التمييز بين المواطنين على أسسٍ غير مواطنيّة، إلى استمرار سلطة الحزب الواحد، إلى عودة العسكر إلى سُدّة السياسة، إلى منع التعدديّة السياسيّة والحياة النقابيّة، إلى النّيل من حقوق المرأة من طريق التمييز بين الجنسين في فرص المسؤوليّة، إلى الفساد السياسيّ...إلخ. والظواهر هذه ممّا تزدحم وقائعُها في الكثير من البلاد العربيّة اليوم فيختنق، بازدحامها، المستقبلُ السياسيّ وتتثبَّط باعتناقه العزائم. ولكن، هل هذه الظواهر السيئة هي التي تستثمرها المعارضات في خطابها النقديّ - وحدها ظواهرُ السياسة في البلاد العربيّة، ووحدها المفردات التي يمكن أن نصف بها المجال السياسيّ العربيّ؟
مشكلة المعارضة تكمن، هنا، في منزِع السّجال والمضاربة الإيديولوجيّة الذي يستبدّ بها. لذلك تكتفي من الموضوع بالنظر إلى الجزء الفارغ من الكأس ذاهبةً في الانتقائيّة إلى الحدّ الأبعد. هكذا لا يعود في وسعها أن تنتبه إلى التغيّرات الإيجابيّة حتّى ولو كانت رمزيّة أو طفيفة؛ لأنه ليس من مصلحتها الاعتراف بها، لِما في الاعتراف ذاك من تسليمٍ بعدم صدقيّة نقدها، أو مخافة أن يسحب ذلك (الاعتراف) البساط من تحت أقدامها. والنتيجة؛ مزيد من الانغماس في العدميّة.
ما لا يقوله خطاب المعارضة أن قدراً لا بأس به من المكتسبات السياسيّة تحقَّق، في العقود الأخيرة، في قسمٍ غير قليل من البلدان العربيّة؛ الإفراج النسبيّ عن حرّية الصحافة والرأي والتعبير؛ الإصلاحات الدستوريّة النسبيّة؛ إقرار الحياة التمثيليّة والنيابيّة في بلدان لم تكن تعرف انتخابات؛ إقرار مبدأ التعدّديّة السياسيّة في أكثر من بلد؛ تكوين حكومات منبثقة من أغلبيّة نيابيّة في بعض الدول؛ الترخيص بتأسيس جمعيّات مدنيّة في دولٍ عدّة؛ تمتيع القضاء ببعض الاستقلال النسبيّ عن السلطة التنفيذيّة؛ تحسين التشريعات الخاصّة بحقوق المرأة في البلدان التي ضُيِّق فيها الخناقُ على حقوقها سابقاً...إلخ. ما من شكّ في أنّ وتيرة هذه الإصلاحات اختلفت من بلدٍ عربيّ لآخر باختلاف درجة تطوّر الحياة السياسيّة فيها، وباختلاف مستوى التراكُم في الخبرة السياسيّة وفي انفتاح النخب الحاكمة على مطالب مجتمعاتها. ثم ما من شكٍّ في أنّ هذه المكتسبات لا تزال، حتى اليوم، محدودة ورمزيّة ولا تُجيب مستوى المطالَبات المجتمعيّة العامّة، ولكنّ الواقعيّة السياسيّة تقضي بوجوب الاعتراف بأهمّيتها، وبالبناء عليها قصد تعظيمها وبالتالي، تقضي بالكفّ عن تجاهُلها والإمعان في سياسةٍ عدميّة تحبيطيّة وتخذيليّة للجمهور؛ لأنّها سياسة غير بنّاءة، بل هي عقيمة بجميع المقاييس.
لا يمكن لعاقلٍ، أو لواقعيّ، غير أن يتطلّع إلى الاستمرار في سياسة الإصلاحات السياسيّة هذه، من غیر انقطاعٍ أو تعثّر، وإلى رفع وتیرةِ تطبيقها بما يوفّر قدراً أكبر من المشاركة السياسيّة ومن الاستقرار؛ إذ ليس للبلاد العربيّة من خيارٍ آخر لمواجهة تحدّياتها غير هذا، كما ليس من ظهير للنخب الحاكمة غير شعوبها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"