الإسلاموفوبيا في فرنسا

03:42 صباحا
قراءة 4 دقائق

في 19 يوليو/تموز الماضي أوقفت الشرطة الفرنسية امرأة منقبة، في مدينة تراب لمخالفتها القانون (الصادر في 1-10-2010) الذي يحظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة . وتطور الأمر إلى تظاهرات دامت يومين متتاليين، في الحي الذي تقطنه أغلبية مسلمة، وصدامات مع أفراد الشرطة الذين جُرح منهم أربعة . وبمعزل عن تفاصيل الحادث فقد شكل ذريعة لعودة الإسلام الفرنسي أو الإسلاموفوبيا إلى النقاش العام والاستغلال السياسي .

زعيم المعارضة اليمينية جان-فرانسوا كوبيه نشر في 24 يوليو/تموز مقالاً في جريدة لوموند يدعو إلى عدم التنازل للأصولية الدينية، لأن التمرد الذي حصل في تراب هو استفزاز للجمهورية إذا لم يواجه بحزم فإن سلطة الدولة ستضعف وحجة الأصوليين ستقوى . عندما تنفجر أعمال عنف مماثلة يصبح النقاش ضرورياً، لكن المقلق أن قسماً من اليسار يخفف من أهمية هذه الاضطرابات ويبررها عبر الكلام عن البطالة أو ضرورة إلغاء قانون حظر النقاب لأن تطبيقه يواجه مقاومة . وذكّر بأن فرانسوا هولاند وجان-مارك إيرولت (رئيس الوزراء الحالي) لم يصوتا على القانون المذكور عندما كانا عضوين في البرلمان العام 2010 .

وبالطبع لم يكن كوبيه وحده من استغل الحادثة ليتهم اليسار بالتهاون مع المسلمين، فزعيمة الجبهة اليمينية المتطرفة مارين لوبان لا يمكن أن تترك مثل هذه الحادثة تمر من دون استغلال سياسي رخيص، فضلاً عن أقلام صحفية عديدة وتغريدات على تويتر نعتت الإسلام والمسلمين بأقبح الصفات وطالبت الحكومة بالحسم والبطش .

لقد أضحى الإسلام ذريعة يلجأ إليها السياسيون الفرنسيون الذين، بدل الاعتراف بإخفاقهم في إدماج المسلمين في النسيج الوطني، يهربون إلى تحليلات عقيمة حول عدم تلاؤم الدين الإسلامي مع الحرية والديمقراطية والجمهورية . وقد أضحى الفضاء الاعلامي مكاناً رحباً للمبارزات الكلامية التي تغذي قلقآً على الهوية الفرنسية والذي من أسبابه توسع الاتحاد الأوروبي إلى 28 دولة وما تضمه من ثقافات ولغات وشعوب وأعراق (لا ننسى موجة العداء ضد البولونيين والغجر الرومانيين ) . وقد برهنت استطلاعات حديثة للرأي عن وجود أغلبية ساحقة من الفرنسيين تجد بأن الإسلام مرئي أكثر من اللازم في الساحة العامة وبأنه يشكل تهديداً .

إذا كان نقد الدين يعتبر من الحريات الأساسية التي يحميها الدستور الفرنسي فلماذا هذا التركيز على الإسلام بالتحديد، علماً بأن أحداً لا يتعرض لليهود واليهودية خوفاً من تهمة العداء للسامية التي يعاقب عليها القانون . ويجد المواطنون المسلمون أنفسهم أسرى لشكوك الآخرين ولمعادلة يختلط فيها المشبوه بالساذج : عربي = مسلم = إسلامي = إرهابي .

لقد تعزز الخطاب المعادي للإسلام مع الاستراتيجية الأطلسية لإحلاله عدواً محل الشيوعية بعد انتهاء الحرب الباردة، في وقت تنظر فيه الثقافة الغربية إلى المجتمعات العربية والإسلامية على أنها عاجزة عن الانخراط في الحداثة وقيم الديمقراطية والحرية والفردانية والعلمانية الغربية . هذه القراءة الثقافوية تصور المسلمين ككتلة متخلفة خانعة وفي الوقت نفسه عصية على السيطرة (إلا بالقوة) . وهذا الادراك الغربي برر دعم الأنظمة الاستبدادية القادرة وحدها على فرض الأمن والاستقرار .

وجاءت تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول 2001 لتكرس هذه الصورة وتدعم أطروحة هانتنغتون حول صدام الحضارات . وبالطبع أسهم المثقفون الداعمون لإسرائيل في ابتداع تعابير مثل الإسلاموفاشية الذي صار رائجاً إلى جانب الأصولية والإرهاب الإسلاميين . ثم أتت الانتخابات، التي تلت الثورات العربية في العام ،2011 والتي فاز فيها الإسلاميون، فضلاً عن صعود نجم التكفيريين والجهاديين والسلفيين والذين أفرد لهم الإعلام الغربي مساحات واسعة، لتزيد من قناعة الغربيين بأن العرب ليسوا سوى كتلة جامدة تقبع تحت هيمنة الدين .

لقد أضحى الوجود الإسلامي في فرنسا مشكلة في السياستين الداخلية والخارجية معاً، وصار يُنظر إليه كتهديد للأمن والهوية . وتشهد النقاشات المستمرة حول الاندماج والهوية الوطنية على توتر اجتماعي وأسئلة وجودية يُتَهم المسلمون بالتسبب بها . لكن بعيداً عن الأطروحات الثقافوية الخاطئة يعرف الدارسون المختصون أن لا تناقض البتة بين الإسلام والجمهورية، بل إن خطاب مسلمي فرنسا يحرص دوماً على الاستناد إلى معادلة الجمهورية حرية، مساواة، إخاء وكل المعادلات الإنسانوية .

وما حدث في تراب ليس انتفاضة إسلامية ضد قوانين الجمهورية، بل رد فعل على إهانة الشرطة لزوجين مسلمين في شهر رمضان . كذلك فلا علاقة لذلك بيمين أو يسار، ففي العامين 2005 و2007 في عهدي الرئيسين اليمينيين شيراك وساركوزي، حدثت اضطرابات شعبية ومواجهات عنيفة مع الشرطة في ضواحي باريسية يقطنها مسلمون . وتطرح حادثة تراب أسئلة كثيرة، مثل: لماذا حواجز الشرطة في أحياء بعينها وفي هذا شهر رمضان؟ هل عن جهل للشرطة أم عن استفزاز مقصود؟ هل على الآخر أن يكون كما يتصوره أو يريده الفرنسيون أن يكون؟ لماذا العجز عن قبول هذا الآخر عندما يكون مختلفاً؟ ألا يكشف ذلك عن فشل الدولة الفرنسية في بناء مساحة عامة تعددية وعلمانية منفتحة ؟

فرنسا هذه تعاني عجزاً عن التوفيق بين التنوع الثقافي والمساواة بين المواطنين . فبناء مجتمع المساواة في المواطنة يتناقض مع عزل فئة من المجتمع وحرمانها من حقها بأن يكون لها ثقافتها وطريقة عيشها، إضافة إلى العناصر التي تشكل بنظرها المكونات الأساسية لهذه الثقافة . ويقول أوليفييه روا، المختص بالإسلام الفرنسي، إن علاقة المسلمين بالسياسة جزء من حياتهم اليومية العادية، فعلى عكس الكاثوليك حيث تستأثر الكنيسة بالسياسة، لا تمر علاقة المسلمين بالسياسة عبر المؤسسات الدينية . والتعبير العام عن التدين (إشهار الدين) هو أحد الوجوه المركزية للهوية الدينية . فالحجاب والنقاب واللحية والمسجد وغيرها تعبيرات خارجية، لكن ضرورية، عن تدين المسلم والمسلمة . وهذا ما يعجز الفرنسيون عن فهمه، أو أنهم لا يريدون ذلك .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"