الوطن العربي في حالة رخوة

03:41 صباحا
قراءة 3 دقائق
كأنما كتب على هذه القطعة الشاسعة من الأرض التي يطلق عليها الوطنيون العرب اسم "الوطن العربي"، أن تمر في مراحل مختلفة من تاريخها بحالة من الرخاوة الجغرافية- السياسية، فتصبح جاهزة لإعادة تشكيل أقاليمها الطبيعية وفقاً لرغبات ومصالح وخطط القوى السياسية الإقليمية والدولية التي تطفو على سطح السياسة الدولية، في كل مرحلة من هذه المراحل .
ومع ان حركات قومية عربية كانت تتصاعد في إطار الإمبراطورية العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وهي تمتلك خططاً وتصورات للتشكيلات الجغرافية- السياسية المناسبة للمصالح العربية القومية، عند خروج الأقاليم العربية من نير السلطنة العثمانية، فقد شاء القدر السياسي لهذه المنطقة الخطيرة والحساسة من العالم، أن تنعقد في الغرف السوداء التابعة لقوى الاستعمار الغربي التي قهرت الامبراطورية العثمانية وفككتها في الحرب العالمية الأولى، جلسات وضعت فيها خريطة الوطن العربي على طاولة القوى الاستعمارية الغربية، وهي في حالة الرخاوة السياسية التي أشرنا إليها، أو حالة السيلان السياسي بتعبير آخر، لتعمل منها تقطيعاً وتقسيماً وتشكيلاً وفقاً لمطامع القوتين الاستعماريتين الأقوى في تلك اللحظة التاريخية: فرنسا وبريطانيا، فكان أن أعيد تقطيع الخريطة الإقليمية العربية، ليعاد تشكيلها من جديد، ليس وفقا لطموحات وأحلام القوى القومية العربية الصاعدة، بل وفقاً للاتفاقية الشهيرة التي عرفت باسم اتفاقية سايكس بيكو، في نهايات الحرب العالمية الأولى، وقبل انتهائها بسنة .
بعد ذلك أصيبت بقعة من الإقاليم العربية الخارجة من حطام الإمبراطورية العثمانية، هي فلسطين، في نهاية الحرب العالمية الثانية هذه المرة، لتغيير حالتها الجغرافية - السياسية- السكانية تغييراً انقلابياً، بتأسيس الكيان الصهيوني وإقامة دولة "إسرائيل"، نتيجة لثلاثين سنة كاملة من الاستعمار البريطاني لفلسطين العربية .
في هذه الأيام المضطربة من السنوات الأولى للقرن الجديد، الحادي والعشرين، بدأت تلوح على الأوضاع الإقليمية العربية علامات الرخاوة السياسية أو السيلان السياسي، الذي يجعل منطقة المشرق العربي بشكل خاص، تصاب بأمراض الرخاوة السياسية، وإعادة تشكيلها وفقاً للمصالح النفطية والاستراتيجية للقوة الدولية العظمى في اللحظة التاريخية الراهنة: الولايات المتحدة الأمريكية، التي تحاول أن ترد، قبل فوات الأوان، على لحظة تراجع عهد احتكارها للزعامة العالمية .
صحيح أن الشكل الخارجي للأمور يبدو على شيء من الوضوح: إقامة تحالف دولي بزعامة أمريكا لضرب التنظيم الإرهابي المعروف باسم "داعش" . لكن غرابة تشكيل هذا التحالف من قوى متناقضة، وغرابة النتائج العملية حتى الآن على أرض الواقع، توحي بتحولات سياسية أكثر خطورة من الهدف المعلن للتحالف الدولي .
ولمن ما زال حتى الآن مقتنعاً بسلامة أهداف واشنطن، وسلامة نيتها الخالصة لمصلحة شعوب المشرق العربي (بالذات سوريا والعراق)، نقول إن الشريك المتحالف أصلاً مع "داعش" والراعي له، أي النظام التركي، يعود مرة بعد أخرى، ليخيب آمال حسن النية، فيصرح رجب طيب أردوغان بضرورة إعادة النظر في الخريطة السياسية التي نتجت عن الحرب العالمية الأولى . أي أنه يذكر من لم ينتبه بعد لجدية أحلامه العثمانية، أي هذه الأحلام هي خطة عمل سياسية فعلية بين يدي النظام التركي .
حالة من الرخاوة السياسية تسيطر على أقاليم المشرق العربي، بانتظار خطط من واشنطن بدأت روائحها تفوح، وخطط من تركيا، بدأت روائحها تزكم الأنوف .
هل سيفعل القضاء والقدر فعله كما في الحالات السابقة من الرخاوة السياسية، أم أن صحوة عربية ستظهر، وتقلب الأمور على أعقابها، وتعيد الصلابة المطلوبة إلى الأوضاع الجغرافية السياسية للوطن العربي، خاصة المشرق؟ .


إلياس سحّاب

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"