الرأسمالية والنظام الدولي

04:56 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

يعيش النظام الدولي، منذ نهاية الحرب الباردة، وسقوط الاتحاد السوفييتي (1922-1991)، حالة من عدم التوازن بين القوى الرئيسة الفاعلة فيه، إذ لم يكن من السهل إعادة التوازن إلى هذا النظام بعد غياب أحد قطبيه، بما مثّله من نقيض اقتصادي وإيديولوجي للرأسمالية، ما فتح الباب واسعاً أمام تمدّد غير مسبوق للرأسمالية، مع تفرّد القطب الأبرز الممثل للرأسمالية العالمية في إدارته، حيث وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام مسؤولية قيادة العالم، في ظل غياب شركاء من الوزن نفسه، وعدم رغبة الصين، بناء على توجهاتها الديبلوماسية، في لعب دور بارز ومباشر على الساحة العالمية.
لم يكن سقوط الاتحاد السوفييتي مجرد سقوط إمبراطوري، أو غياب قطب عسكري وسياسي، بل هزيمة للمشروع الاشتراكي العالمي، ولآليات محددة في الإنتاج والإدارة وتوزيع الثروات، ولفهم في السياسة، لا يقوم بشكل مباشر على المصالح الاقتصادية، حيث تقوم الإيديولوجيا بدور تعويضي كبير في بناء السياسات الاجتماعية الداخلية من جهة، وفي بناء السياسات الخارجية من جهة أخرى.
وفي الوقت الذي كانت فيه الدعاية الاشتراكية، ممثلة بمنظريها وأحزابها وإعلامها، تتنبأ بنهاية الرأسمالية من داخلها، مستندة إلى مقولة «صراع الطبقات»، قامت الرأسمالية بتجديد نفسها من الداخل، وبناء منظومات للتكيّف مع تناقضاتها، مع السعي المتواصل إلى التحكم بمنابع الطاقة العالمية، والتوجه إلى تطوير التقنيات العليا، وإعادة توزيع الإنتاج في سوق العمل الدولي، وهو ما منحها تفوّقاً كبيراً على خصمها السياسي، أي الاتحاد السوفييتي، ومنظومته الاشتراكية.
التنبؤ الاشتراكي انقلب إلى ضدّه، فقد سقط الاتحاد السوفييتي من داخله، من دون أي مواجهة عسكرية مع الغرب، ومن دون استخدام رصاصة واحدة بين المعسكرين، حيث أكلت الإيديولوجيا مقومات الإنتاج، وأنتجت نمطاً متخلفاً من الإدارة، وعوضاً من وصول المجتمعات الاشتراكية إلى اشتراكية الغنى، وصلت إلى اشتراكية الفقر، حيث تحكّمت الطبقات الحزبية بالثروات، في الوقت الذي أفقرت فيه معظم فئات المجتمع.
لكن الانتصار الرأسمالي، وتتويج الولايات المتحدة قائدة للعالم، شهد تحوّلاً نوعيّاً كبيراً، تمثل في تضخم القوة الرأسمالية، مدفوعة بثورتي التقانة والاتصالات، وهو ما رافقه تحوّل نوعي في النظر إلى العالم، حيث لم يعد العالم يتألف- بنظر الرأسمالية المعولمة- من دول، لها دورها في تحقيق السلم العالمي، بل مجرد أسواق لتصريف البضائع، وبالتالي فقد أعادت الرأسمالية المعولمة النظر بدور الدول الوطنية، وبدور الحكومات فيها، لخدمة تنامي الأسواق، ومراكمة الثروات.
وعلى الرغم من كل مساوئ النظام الدولي ثنائي القطبية، وما رافقه من معضلات دولية، ومن تتويج لديكتاتوريات تابعة للمعسكرين الشرقي والغربي على حدّ سواء، إلا أن الاعتراف بأهمية منظومات الأمن والاستقرار الإقليمية كان أحد ضوابط انفجار النزاعات الكبرى بين الدول، أو حتى داخل الدول نفسها، فقد كان المعسكران الشرقي والغربي على توافق بما يخص أهمية استقرار التكتلات الإقليمية الكبرى، كما في حالة الشرق الأوسط، مع خفض منسوب النزاعات في حال وجودها.
لقد أدى هذا الوضع غير المسبوق في صعود الرأسمالية إلى جعل الشركات الكبرى في مقدمة صياغة العلاقات الدولية، والتي تمتلك أولويات مختلفة عما كانت تمتلكه الدول الوطنية، فلم يعد الاستقرار النموذج الذي يجب المحافظة عليه، وحمايته من الأخطار، فالشركات المعولمة لا ترى أية موانع في هزّ استقرار الكيانات الإقليمية، بل وفي التكيّف مع الفوضى، خدمة لإعادة هيكلة الاقتصاد، وفتح مزيد من الأسواق، والسيطرة على منابع الطاقة الجديدة.
الشرق الأوسط اليوم هو نموذج مثالي للتداعيات التي أفرزتها التحوّلات الكبيرة التي حدثت في النظام الدولي، حيث أصبح ساحة صراع بين القوى الرأسمالية التي تمثل العولمة، بقيادة الولايات المتحدة، وبقايا العالم القديم، والرافض للاعتراف بما ناله من هزيمة، جراء الحرب الباردة، ممثلاً بروسيا، والتي وجدت حلفاء إقليميين، لهم مصلحة في عرقلة التمدد الذي تمثله العولمة، وما يمكن أن تفرضه عليهم من ضغوط سياسية، لا تصبّ في مصلحة النخب الحاكمة.
في ظل الصراعات الجديدة التي تقودها الرأسمالية، وفي ظل اختلال النظام الدولي، لن يكون ممكناً أن نشهد قريباً بزوغ حالات استقرار في منظومة الشرق الأوسط، بل ربما مزيداً من الحروب والتداعيات، والتي تدفع الشعوب ثمنها أولاً وأخيراً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"