خيار الدولة الفيدرالية في اليمن

05:26 صباحا
قراءة 4 دقائق

كان اليمن من بلدان عربية قليلة حدث فيها التغيير بالتراضي . وحمل العهد الجديد فيها بعض عناصر العهد السابق، فالرئيس الجديد هو نائب الرئيس السابق . حدث ذلك بغير تدخل عسكري خارجي، ولا بعقوبات دولية . فقد أبدى الرئيس السابق علي صالح وإن بعد تردد وممانعة، مرونة في التعاطي مع الوضع المتفجر في بلاده وارتضى التنازل عن العرش، وما زال مقيماً في بلاده . كما ارتضت المعارضة إعفاءه وأبناءه وبعض المقربين منه من المساءلة والمحاسبة . ولو لم يتم التوصل إلى هذا الحل بفضل المبادرة الخليجية، لكان الدم اليمني ما زال ينزف ولتمزقت المؤسسة العسكرية .

وللأسف ما زالت هناك مشكلات موروثة لم تجد حلاً لها بعد، فبينما يشكل وجود تنظيم القاعدة التحدي الأمني الأبرز، فإن مشكلة الجنوب تمثل تحدياً سياسياً جسيماً . المشكلة الأخيرة طفت ي السطح مجدداً مع شيوع أنباء عن محاولة اغتيال تعرض لها مساء الاثنين الماضي ياسين نعمان الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني، وهو حزب جنوبي ظل يقود دولة الجنوب حتى إعلان الوحدة في مايو/أيار 1990 بين شطري البلاد . ونعمان إلى ذلك هو أحد المستشارين الثلاثة للرئيس هادي عبدربه . واستهدافه يحمل مؤشراً سلبياً متعدد الدلالات الفئوية والحزبية والجهوية .

الحزب الاشتراكي يتمثل في حكومة الوحدة الوطنية التي يقودها سالم باسندوه، والحزب في الوقت نفسه هو أحد أبرز فصائل الحراك الجنوبي السلمي، الذي يطالب بإعادة دولة الجنوب ( الانفصال)، وبعض أدبياته تتحدث عن احتلال شمالي للجنوب . الحراك الجنوبي سيّر مظاهرات الخميس والجمعة الماضيين تدعو علنا للانفصال، في مؤشر إلى تزخيم الشارع للضغط على صنعاء لتحقيق هذا المطلب .

في الظرف الانتقالي الذي يعيشه اليمن، فإن هذه المفارقات لا تبدو غريبة كل الغرابة . فالحزب الاشتراكي ساهم في الثورة اليمنية، وأن يكون شريكاً في العهد الجديد فهذا امر متوقع ومنطقي، كما هو حال الأطراف الحزبية والسياسية والأخرى . اما المطالبات الخاصة بالجنوب، فهي أمر قائم بذاته من جهة وسابق على الثورة اليمنية، إذ انطلقت هذه المطالبات منذ العام ،2007 وتعرض اصحابها للتنكيل من العهد السابق . الآن اختلفت الظروف، لكن المطالب لم تتراجع، وهي تتمحور اساساً حول انصاف الجنوب والجنوبيين .

والبادي في قراءة المشهد الجنوبي أن الحراك يتوفر على آراء عدة بعضها يدعو للاحتكام إلى السلاح، ويصنف آخر رئيس لدولة الجنوب علي سالم البيض بأنه من أنصار هذا الخيار وأنه يتعاون في ذلك من منفاه مع الحوثيين . بينما يركز الشطر الأكبر على التحرك السلمي دون سواه، وخاصة أن وجود العهد الجديد في صنعاء يملي اللجوء إلى هذا الخيار . وثمة اتجاه يتمسك بالوحدة مع أهمية النظر في مطالبات الجنوبيين وإنصافهم (ملكية الأراضي، التعيينات في الدولة وبالذات في المؤسسة العسكرية، انصاف ذوي ضحايا الحرب والعسكريين السابقين) . وثمة اتجاه رابع يدعو للفيدرالية بين الشمال والجنوب .

على أن المشهد السياسي في جنوب اليمن لا يقتصر على الحراك لجنوبي، فثمة اتجاهات اصولية تتداخل مع نفوذ قبلي لتتداخل بعدئذ مع وجود تنظيم القاعدة ، مما يدلل على تعقيد الوضع من جهة، وعلى خطورته من جهة ثانية مع انتشار السلاح بكثافة في أيدي هذه القوى وسعيها إلى فرض معادلات لصالحها . وعليه فإن اي صراع مع السلطة الجديدة الناشئة في صنعاء، سيكون مرفوقاً بصراعات بين قوى الجنوب نفسها، مما يدرج الصراعات برمتها في خانة المحذور .

إلى ما تقدم ثمة محذور آخر يمكن احتسابه أيديولوجيا . اذ أن إبقاء هوية الجنوب ككيان ومواطنين معلقة ورهناً بالتطورات في الشمال هو أمر خاطىء في التنشئة الوطنية، وقد يؤسس لنزاعات مستدامة مع الشمال لا سمح الله .

يُحسن الجنوبيون صنعا ومعهم اهل الشمال، بمراجعة المرحلة السابقة مراجعة أمينة ونزيهة وشجاعة لتعيين الأخطاء السابقة وتداركها حاضرا ومستقبلاً . والمدخل إلى ذلك القبول بفكرة الدولة الفيدرالية بين الشمال والجنوب، التي تلبي المصلحة في وحدة البلاد، وتنصف الجنوبيين وتضمن اقامة كيان لهم مع المشاركة في الدولة الاتحادية على جميع المستويات .

ولا شك ان وجود رئيس من الجنوب على رأس البلاد هو الرئيس الحالي عبدربه منصور، وكذلك رئيس الحكومة باسندوة يشكل ضمانة للسير السليم بهذا الاتجاه . هناك حوار وطني مرتقب في غضون أسابيع سوف تشهده صنعاء، ويشكل فرصة لطرح الهواجس السياسية بأكبر قدر من الشفافية . والقوى السياسية والاجتماعية في الجنوب مدعوة لفحص خياراتها ، وبلورة رؤية مشتركة تقوم على الحق في الإنصاف التام، وليس الحق بالانفصال بالضرورة . وهنا تبدو الفيدرالية هي الخيار الوطني الأسلم للشمال والجنوب على السواء، والبديل عنها هو نزاعات لا تنتهي بين الشطرين، واجتذاب تدخلات اقليمية، والمزيد من عسكرة المجتمع، ناهيك عن الصراعات ضمن الجنوب نفسه بين رؤى وأجندات متباينة مع اهمية استخلاص العبرة من التاريخ، حيث كان الجنوب نفسه مقسما بين محميات إبان الاحتلال البريطاني، والخشية أن لا تتوقف الدعوات الانفصالية عند حد الافتراق عن الشمال .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"