"البجعة السوداء" والسياسة

03:39 صباحا
قراءة 5 دقائق

ما الذي يعمينا عن إدراك الأحداث الكبيرة التي تباغتنا في الحياة؟ وكيف نستهين بما هو واقع خارج نطاق تصوراتنا، وبحدوث اللاممكن، خاصة مع ازدياد تعقيدات المستقبل؟

لماذا لا تساعدنا كل هذه الخبرة والمعرفة والثقافة والتعلم، في تصور الأمور غير المتوقعة؟ هل هو الغرور المعرفي، أو الافراط في الثقة بالنفس؟ أم أن جهازنا الإدراكي لا يتفاعل مع ما لا يقع أمام النظر؟ أم هو التفكير الرغائبي الذي يتأسس على التمني ورؤية ما نشتهي أن نراه؟

وقد يقول قائل، إن الميديا ومراكز البحث، لها الفضل في ذلك، بسبب ما تتمتع به من حذاقة في التضليل، ومن كلام مثلّج ومعقم ومنزوع الدسم، ونزوع نحو التجريد والتعميم واحتكار الصواب .

أسئلة أخرى معقدة، تبحث عن إجابات في هذا العالم الذي تبدل في العقدين الأخيرين، وهبت في جنباته عواصف خلعت الأبواب، وخلخلت كيانات ومفاهيم . ولم تفلح فيه، طوال عشرين قرناً، محاولات الاصلاح وإسعاد الإنسان، ولا جعل الأرض كوكباً محرراً من الشقاء .

لقد استخدمت عبارة البجعة السوداء عن كتاب صدر مؤخراً حمل هذه العبارة، وترجم إلى عدد من اللغات، وتحدث فيه مؤلفه (نسيم طالب) عن كيفية ترويض الغموض، والبحث عن الأحداث النادرة اللامتوقعة، وأطلق تسمية البجعة السوداء على كل الأحداث والظواهر الواقعة خارج نطاق التكهن والتوقع، وكان المفهوم الشائع عبر آلاف السنين، أن لون طيور البجع هو الأبيض، ولا أحد كان يتصور أن هناك بجعاً أسود على الأرض، حتى عام ،1790 حينما تم اكتشاف البجعة السوداء في أستراليا .

في السياسة، والاجتماع والنظم وغيرها، هناك الكثير من البجع الأسود كألغاز محيرة وأحداث غير متوقعة، وتكمن المشكلة فيها، أننا -علماء وأكاديميين وباحثين وسياسيين نعتبرها غير موجودة، بسبب صعوبة التكهن بما هو خارج المألوف، وبخاصة في ظروف معقدة، وتحولات جارفة .

ومن أسف، فإن جدنا ابن خلدون، لم ندرسه جيداً، رغم أنه خير من يلدنا على البجعة السوداء، وحرضّنا على الشك في ما نقرأ وفي ما نسمع، وعلى إدراك ثنائيات الدولة ونقيضها، وعرفنا بقوانين التفكيك وقواعد التمدن، وتعامل مع التاريخ كمحلل وفاحص ومقارن بين الروايات .

والآن . . نطرح هذه التساؤلات:

هل كان أحد من الناس يتصور حدوث ثورات أو انتفاضات شعبية في الوطن العربي؟ هل كان أحد يتكهن باقتلاع دكتاتوريات، في إطار تغيير ذاتي عربي؟

كانت البجعة السوداء العربية، عصية على التكهن، مثلما كانت أحداث الهجوم الإرهابي في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 أيضاً بجعات سوداء بامتياز، وكذلك موجات تسونامي في ديسمبر/كانون الأول 2004 .

المهارات العلمية على درجة كبيرة من الأهمية، والتخطيط والبرمجة والاستشراف كذلك، لكنها تبقى عاجزة عن إدراك كل القواعد، إن إمكانية حدوث اللاممكن تعادل إمكانية حدوث الممكن، هكذا يقول صاحب البجعة السوداء، وإن معظم الوثبات الكبرى في التاريخ هي تلك التي كانت الأقل توقعاً، كالاكتشافات العلمية، واكتشاف كولمبس لأمريكا في وقت كان يبحر فيه، كما اعتقد باتجاه الهند . . أمريكا كانت خارج مسارات تفكيره .

في الهجوم الإرهابي يوم الحادي عشر من سبتمبر، كانت هناك بجعة سوداء، لم يفكر فيها أو يتخيلها أي عضو في الكونغرس الأمريكي قبل حدوثه، من خلال تمرير قانون يفرض إقفال قمرة قيادة الطائرات، أثناء الطيران، كمجرد احتياط لمواجهة عملية اختطافها . إن مثل هذا القانون، كان كفيلاً بمنع كارثة مقتل نحو ثلاثة آلاف شخص بريء، إضافة إلى ألف شخص آخرين، ماتوا بحوادث سيارات على الطرق البرية، في الشهور الثلاثة التالية، بعد أن باتوا خائفين من استخدام الطائرات في أسفارهم المحلية بين الولايات، ولننس مؤقتاً، حربين واحتلالين لأفغانستان والعراق .

في الشأن الفلسطيني، هناك بجع أسود كثر، يُنهي صلاحية مراكز أبحاث وخبراء معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وحواسيب ومحطات تلفزة فوكس، وقد لا يدركها من آلت إليه سلطة القرار في غزة ورام الله، فثمة مواقف وأحداث لا تقبل القياس على سابقاتها في الماضي، ولا تكون مجرد امتداد لهذا الماضي، بقدر ما تكون قفزات نوعية وبجع أسود . لكن كثير من الناس في هذا الكون، يتصرف كما لو أنه قادر على تحويل مسار التاريخ، باعتبار أن الآخر مصاب بالزهايمر أو الخرس . نتنياهو مثلاً، يعتقد أنه قادر على التفاوض لأكثر من ستين عاماً . كي يحافظ على ما تم سرقته والاستيلاء عليه وهضمه بالتمدد والإحلال والاستيطان والقرصنة، وبوليصة تأمين أمريكية .

إن ما لم يحدث بعد، ليس مستحيل الحدوث، هكذا كان مصير الاتحاد السوفييتي، وظهر غورباتشوف كبجعة سودا غير متوقعة، وكان الخطأ الأنجح في التاريخ كما يسميه أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا (تريسمان) .

جورج كينان، دبلوماسي أمريكي صغير الرتبة، اقترح في عام 1947 في مقالة قصيرة صحفية سياسة احتواء الاتحاد السوفييتي، بعد نحو أربع عقود من نشر هذه المقالة، تفكك الاتحاد السوفييتي، عبر سياسات لم يدركها السوفييت، وكانت تتم في إطار مضمون المقالة، والتي كانت في حينها بجعة سوداء بامتياز .

أين البجعة السوداء في تكهنات خبراء الأسواق والاقتصاد؟ لماذا لم تساعدهم كل هذه الخبرة والمعرفة في التكهن وتوقع اللاممكن في اليونان وإسبانيا وأسواق الأسهم، وارتفاع نسبة البطالة وغيرها، وعواقب هذه الأحداث، وأكثر الخبراء هم من أصحاب الشك العلمي؟

لا أحد يتخيل أو ربما يجهر في الحديث عن أصوليات يمينية قد تحكم قبضتها على مفاصل القرارات السياسية والثقافية في أمريكا وأوروبا الغربية، لا أحد دق ناقوس خطر قادم، يحمل معه حروباً دموية ممتدة، ومصادرة واسعة للحريات، وتعميق الفجوة بين الفقراء والأغنياء .

لعل صوت الإعلام الجديد الصاخب من كل الجهات، يضاعف إرباك الناس، ويؤدي إلى تعثر قراءة الظواهر والأحداث، والاكتفاء بقراءة سطح المشهد، وإهمال ما بين السطور، وننسى أحياناً أن قطرات المطر العابرة هي التي تشكل المحيط .

لنعترف، أن لكل شعب أسراره ومنظوماته المفاهيمية التي لا تطفو على السطح، فسور الصين العظيم، ليس مجرد حجارة وساتر أمام الأعداء، بل مفاهيم وفلسفات، وكذلك نيل مصر، وعبقرية مكانها، لا جهينة في الوطن العربي، ولا في الغرب، كان عندها النبأ اليقين حول مستقبل نظام مبارك، إن كثيراً من البجع الأسود كان يسبح في فراغات هذا النظام، وهي فراغات مسكوت عنها، أو لا يعبأ بها المصابون بالعمى السياسي والبصيرة العرجاء، أو الذين يزرعون البصل ويحلمون بحصاد اللؤلؤ .

إن هناك خيارات أخرى، لا تعترف بأجندات تقليدية، ولا حتى بعقارب ساعات الخبراء وكتبة التقارير التي تدلك العواطف، وتبرز الورم، باعتباره عافية، صحيح أن هناك كثيرين تحدثوا عن شقاء الإنسان العربي، لكن قلة تحدثت عن الوعي بهذا الشقاء، الذي ينقل الإنسان من مفعول به إلى فاعل .

المهم، ألا نقلب الصفحة التي فيها ما لا يروق لنا، ولا نهز أكتافنا ونزمّ شفاهنا، عند بحثنا عن مقتربات غير مطروقة في حياتنا لاجتراحها .

في عالم يبحث عن البجع الأسود، لا بد أن تسود ثقافة الاسئلة والمساءلات المستدامة، التي تعاين تفاصيل الواقع، وتبتعد عن الأجوبة المعلبة المحفوظة وثقافة اليقين وامتلاك الحقيقة .

مطلوب خطاب بديل للسائد، وصولاً إلى البجعة السوداء، الموجودة في فكرة تقول إن التاريخ غير قابل للمكوث عند لحظة ما، حتى لو كانت ثورة أو لحظة حاسمة . ولعل ذلك هو مكر التاريخ، ومكائده غير المحسوبة .

ولنتذكر في هذه الأيام، أن أمام النخب الفلسطينية وهي تتجول في نيويورك الآن، بجعات سوداء يمكن صيدها، إذا ما امتلكت هذه النخب خيال التأمل والتوقع وحس التاريخ ومكره، لتجاوز بجعات بيضاء عارية من الريش، ثبت فشلها .

أخشى أن تستمر ثقافتنا، حاملة نزعة مزمنة للفرار من مواجهة سؤال البجعة السوداء .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"