ديمقراطية الماء ديكتاتورية الماء

اليوم، غداً
02:14 صباحا
قراءة دقيقتين

تخيّلوا كيف سيكون العالم اذا لم يتم احراز تقدم لتوفير خدمات الماء الأساسية في العالم الثالث، أو اذا لم تجبر شركات الصناعات الزراعية على وقف تلويث أقنية الماء ونقلها عبر الأنابيب والناقلات، أو اذا ما واصلت دول العالم استنزاف ما تبقى من مخزون الماء في جوف الأرض لخدمة نموها الاقتصادي؟ الحصيلة الوحيدة هي خلق مساحات شاسعة جديدة من الصحاري، وتزنير العالم بحلقة قاتلة من المحطات النووية لتحلية المياه، ويدفع الشركات التكنولوجية الى تصفية المجارير ثم بيعنا مياهها بسعر باهظ، هذا في حين أن الملايين في العالم الثالث سيموتون من العطش.

هكذا تصورت الخبيرة الكندية مود بارلو العالم بعد 20 سنة، في كتابها الجديد أزمة المياه العالمية الذي أثار، ولا يزال، ردود فعل دولية واسعة، ليس فقط بسبب تضَمّنه معلومات كثيفة ودقيقة عن العاصفة الضخمة التي تتكثف سحبها الآن فوق مورد الحياة الأول (الماء)، بل أولاً وأساساً لأنها أطلقت صرخة مدوية ضد استغلال الشركات متعددة الجنسيات في الشمال لموارد الجنوب ومعاناته.

بارلو صكّت تعابير جديدة مثل التمييز العنصري المائي، خاصة حين كانت تشير الى أن 130 مليون فقير في أمريكا اللاتينية محرومون من مياه الشفة والري، وتعبير ديمقراطية الماء الذي استخدمته للمطالبة بميثاق دولي جديد لتوزيع الماء بشكل عادل بين الشعوب والأمم. لكن ما لم تنتبه اليه الكاتبة هو أن أزمة المياه العالمية ليست في جدول أعمال الغد، بل هي باتت في امر اليوم بفعل ظاهرة تغيّر المناخ.

فالتراجع المتسارع للكتل الجليدية في جبال الهمالايا، مثلاً، يهدد امدادات المياه في كل الدول المطلة عليها. والجفاف الناجم عن ارتفاع حرارة الأرض يمدد الصحارى الى العديد من الدول في آسيا وإفريقيا. ثلثا سكان المدن في الصين يواجهون نقصاً في امدادات المياه، ومئات الآلاف في مصر يعانون من العطش بسبب تلوث أقنية مياه النيل. في حين ان أغنياء الشمال يحصلون على زجاجات المياه المعبأة من أنظف خزانات المياه الجوفية (أو ما تبقى منها) في كل انحاء العالم.

حروب المياه كانت التوقع المفضل للدراسات التي نشرت في ستينات وسبعينات القرن العشرين، والتي تنبأت بأن الماء سيصبح أغلى من النفط. هذه الحروب ستنشب حتماً بين الدول، لكن الآن بات ثمة شيء اخطر منها بكثير: احتمال اندثار مجتمعات برمتها ليس لندرة المياه فقط بل لتلوثها.

احصاءات الأمم المتحدة الأخيرة أشارت الى أن المياه غير النظيفة تسببت خلال المائتي سنة الماضية بأوبئة ووفيات أكبر من كل الحروب مجتمعة في هذه الفترة. والآن، ومع تزاوج الندرة مع التلوث وتغيُّر المناخ، سيصبح الوضع أسوأ وأخطر.

هل هناك منقذ من ضلال هذه الحرب العالمية المائية الزاحفة ؟

بالطبع. انها ديمقراطية المياه التي تدعو اليها مود بارلو. لكن هذه الديمقراطية تحتاج الى ديمقراطيين. وهذا شرف لا تدعيه لا دول الشمال الغنية التي تملك وحدها معظم صنابير الحل، ولا شركاتها متعددة الجنسيات التي تصادر الآن مياه الفقراء لتبيعها للأغنياء.

وحين تغيب ديمقراطية المياه، لن يبقى في الساح سوى ديكتاتورية المياه!

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"