أوباما الذي يغادر و«عقيدته» معه

03:06 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي

على الرغم من كل الانتقادات التي توجه للرئيس أوباما في كل يوم، تحديداً بسبب سياسته الخارجية الضعيفة والمترددة، فقد كان خطابه عن «حال الاتحاد» في 13يناير/‏كانون الثاني المنصرم، وهو الأخير قبل أن يسلم مفاتيح البيت الأبيض لدونالد ترامب، «إمبراطورياً» بمعنى الكلمة، على غرار خطابات أسلافه الوداعية. فقد استخدم عبارات تتباهى بأن «الولايات المتحدة هي الدولة الأقوى على سطح الأرض... الكل خلفنا في الإنفاق العسكري... لا أحد يجرؤ على مهاجمتنا... الأمر يعود إلينا في وضع النظام العالمي الجديد...»، لكنه، على خلاف سابقيه، ركز كثيراً على الوضع الداخلي، فأهمل السياسة الخارجية، أو جعل منها امتداداً للداخلية، فتفاخر بإنجازاته، وهذا طبيعي، لكنه اعترف بصعود العنصرية في الولايات المتحدة، واتساع الهوة بين الأقوياء والضعفاء، وتراجع الديمقراطية، وغيره.
لكن بالنسبة إلى الشرق الأوسط، حيث لم يحقق الرجل أي إنجاز يذكر، بل حيث كانت سياساته سبباً لاستشراء الفوضى، فقد بشرنا بأن «عدم الاستقرار سوف يستمر لعقود طويلة بل لأجيال... وسيكون هناك نزاعات...». ولا بأس بذلك طالما أن «داعش» لا يشكل خطراً وجودياً على الولايات المتحدة» .
صاحب سياسة «القيادة من الخلف»، والحرب بالطائرات من دون طيار (درون) التي استخدمت في تعقب واغتيال قياديي القاعدة و«داعش» في أفغانستان وباكستان واليمن وغيرها، كان واضحاً تماماً في خطابه الوداعي. لكن هل يمكن القول إن أوباما كان صاحب «عقيدة» تميز بها، على غرار الرؤساء الأمريكيين الذين تميز معظمهم بعقيدة نسبت إليه واستراتيجية تخصص بها؟
ونجد التوليفة الحقيقية ل«عقيدة أوباما» في خطابه في وست بوينت في 27 مايو/‏أيار 2014 التي يمكن تلخيصها كما يلي: عدم اللجوء المنهجي لاستخدام القوة العسكرية، مكافحة الإرهاب بالشراكة مع دول أخرى، تدعيم النظام الدولي عبر تفضيل العمل من خلال المؤسسات متعددة الأطراف.
لكن هذه «العقيدة» لم تتم ترجمتها باستراتيجية ملائمة. انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان والعراق، والاتفاق النووي مع إيران، والتقارب مع كوبا، ودعم مفاوضات كوب 21 في باريس.. كلها لا تعوض تردد أوباما المستمر في الشرق الأوسط، وضعفه أمام نتنياهو، وبشار الأسد وفشل سياسته الروسية، و«الاستدارة» الناقصة نحو آسيا.
المشكلة تكمن، في الحقيقة، في شخصية أوباما نفسه، التي أنتجت سياستين داخلية وخارجية، لم تكونا على انسجام تام مع تطلعات الأمريكيين والوعود بالتغيير التي أطلقها مرشحاً عن الحزب الديمقراطي في العام 2008، ثم كررها في حملته الانتخابية لولاية ثانية في العام 2012. لقد انتخب أوباما بفضل الكاريزما التي يتمتع بها، واعتقد بأنه سوف يحكم معتمداً عليها. هو يعرف تماماً الدستور الأمريكي، لكنه لا يعرف أبداً الدهاليز السياسية في واشنطن.
من المؤكد أن دونالد ترامب ليس في مستوى ثقافة أوباما، ولا يملك الرؤية نفسها لبلاده وللعالم. لكنه عملياً هزمه في الانتخابات التي رفع فيها شعار «عودة أمريكا إلى عظمتها»، من دون برنامج، ولا خطة. لقد تصرف ترامب بطريقة فيها الكثير من الخفة والشعبوية، وردد وعوداً عن أمريكا المحاربة والقوية والعظيمة، كأنه يقصد القطيعة مع أمريكا الأوبامية الضعيفة والمترددة والمسالمة. بلغ ترامب السبعين من عمره، ما يعني أنه من جيل عاش الحرب الباردة وهو من نتاجها، وقد يعيدها، ربما مع الصين هذه المرة، وليس روسيا.
لقد فضل معظم قادة العالم، في العقود المنصرمة، التعامل مع رئيس أمريكي قوي وواضح، أي يمكن توقع ردود أفعاله. لكن المشكلة تكمن، اليوم، في أنه إضافة إلى عدم مصداقية ترامب وشخصيته المهزوزة، فإن مكامن الخلل باتت كثيرة في النظام الأمريكي نفسه، وتشمل مسائل الصحة والتربية والتعليم والبنى التحتية والتفاوت الطبقي والمؤسسات، فضلاً عن تقلص مساحة هامش المناورة الخارجية لواشنطن. وخطاب ترامب عن أمريكا القوية والعظيمة لن يغير شيئاً من هذه الحقائق.
طوال سنوات ثمان تكيف العالم مع ما يمكن تسميته ب«عقيدة أوباما» التي من المؤكد أنها سترحل معه من البيت الأبيض في الشهر المقبل. سوف تطوى الصفحة بعد أيام معدودة، ليفتح زعيم جديد يختلف كلياً عن أوباما ومن كل النواحي، صفحة جديدة ستكون هي الأخرى مختلفة تماماً عما عرفناه في السنوات الثماني المنصرمة. والخوف كل الخوف من ألا يطول الأمر حتى يشتاق العالم، بما فيه الشرق الأوسط العربي، إلى عهد أوباما على علاته.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"