طواحين

23:26 مساء
قراءة 3 دقائق
كانت المطبوعات التي تنشر جوانب من الثقافة والأدب والشعر مثل القلعة الحصينة التي لا يستطيع أي داخل اقتحام أسوارها إلا إذا تسلح بدرجة عالية من التدريب والمراس واللياقة، وكان بعض الذين لا يتمتعون بتلك اللياقة ينظرون إلى تلك المنابر نظرة عداء وخصام، وكثيراً ما كان البعض يشتكي من الأبواب المغلقة أمامهم للدخول من خلالها إلى مدائن الثقافة والشعر والأدب الفاضلة الجميلة، ومع هذا العداء كان الجانب الآخر في الغالب يعمل بمهنية وأمانة من أجل أن يفلتر ما يصل إليه من نتاج كبير، ليقدم للمتلقي ما يصلح أن يلامس ذائقته ويطربها .
وحين ضاق الحصار على البعض، ولم يستطيعوا إبراز طاقاتهم التي يراها الجانب الآخر ضحلة وغير ناضجة، حاولوا إخراج شحناتهم بوسائل مختلفة، فلجأوا إلى عالم التكنولوجيا والإنترنت، وكانت المنتديات هي أفضل الوسائل المتاحة أمامهم في تلك الفترة الزمنية التي لا تتمتع بما يتمتع به أبناء هذا الجيل من تكنولوجيا حلقت بهم إلى عالم به الكثير من التمرد .
استطاع الكثير منهم كسر حصار المطبوعات، وأسهمت تلك المنتديات في تخفيف الضغط على المطبوعات والمنابر الإعلامية المرئية والمسموعة والتي كانت في الغالب محدودة، ومارس الكثير هواية نشر ما يكتبه على الإنترنت بعيداً عن مقص الرقيب والحسيب والناقد أو "المفلتر" وجمع ذاك الفضاء المفتوح شرائح كثيرة، وتم نشر العديد من الأعمال على اختلاف مستوياتها، كما تم السطو على الكثير من الجهود التي لم يعمل أصحابها على توثيقها، وبعض تلك الأعمال موثقة لكن السرقة كانت تطالها من خلال بعض الأشباح التي تتخفى أحياناً خلف الاسم المستعار، ومع هذا فلم تكن كل تلك المنشورات سيئة ورديئة ولا تصلح للنشر .
وقد أسهمت تلك المنتديات في الكشف عن بعض الأسماء والقدرات الجميلة من خلال تواصل بعض أصحاب المنابر الإعلامية معها، والتعاطي بإيجاب من أجل البحث والتقصي عن الإبداع، وتم تقديم الكثير من الأسماء إلى الساحة وإبرازها بشكل جميل .
لكن الزمن كما يقال جنى على الاثنين، ويقال أيضاً " لكن لكل زمان دولة ورجال"، ودخلت وسائل كثيرة حاولت التعاطي مع الطلب الكثير، وزادت القنوات الفضائية وحاولت المطبوعات مجاراتها في الزيادة، لكن الفضاء كان له أثر سريع في العرض والوصول، واشتغلت طواحين الهواء كثيراً من أجل التسيد والبروز، وكان من الضروري أن يقدم من خلالها الكثير، ومع الكثرة يقل الجيد ويكثر الرديء، لأن الوقت يحتاج إلى من يملؤه .
مع هذا فقد عانى الكثير الوصول إلى هذه المنابر الجديدة، ولجأوا إلى الوجه الآخر للمنتديات السابقة، وتصدرت وسائل التواصل الاجتماعي المشهد، ف"الفيس بوك" كان من أوائل الواصلين إلى رحم المجتمع، ودخل الكثير من الناس، ودخلت مع "الفيس بوك" في حلقة التنافس وسائل اجتماعية متعددة، ولن تنتهي هذه الوسائل ب"تويتر" و"الواتساب" و"الإنستغرام" وغيرها، وربما نشهد فضاء آخر لا نتصوره مثلما كنا لا نتصور ظهور مثل ما هو متاح في هذا الزمن .
القضية ليست في ظهور مثل هذه الوسائل التي قربت المسافات، واخترقت الحواجز، ودخلت إلى كل مكان بلا رقيب ولا استئذان، إنما القضية في ثقافة التعاطي مع كل هذا الجنون الفضائي، فمثلما تم استغلال المنتديات سلبياً مع إيجابياتها الكثيرة، فإن المتوفر حالياً تم استغلاله كذلك سلباً، وأسهمت هذه السلبية في عملية الهدم والتدمير لكثير من القيم والمفاهيم الأخلاقية والإنسانية، لكن المتابع لها عن قرب يكتشف أن هناك أقنعة كثيرة تتخذ من الشهادات العليا وسيلة لإخفاء سرقاتها وضحالة ما لديها، وستصبح هذه الطواحين الفضائية مفرمة لأسمائهم وتاريخهم المزيف .

محمد عبدالله البريكي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"