عودة أطروحة "صدام الحضارات" إلى التداول

05:21 صباحا
قراءة 4 دقائق

لم يأت فيلم #187;براءة المسلمين#171; الأخير، المسيء إلى المسلمين ونبيهم من عدم، بل من سياق يمتد إلى تاريخ العلاقة المعقدة ما بين شرق وغرب لا يلتقيان، على ما قال جبران خليل جبران ذات مرة . حديثاً يمكن القول إن كتاب برنار لويس #187;الإسلام#171; الصادر في العام 1975 كان الأول من نوعه في سياق التأسيس لمواجهة بين العالمين الإسلامي والغربي، الأمر الذي لم ينجح بسبب التحالف الموضوعي الذي كان قائماً بينهما في مواجهة المعسكر الشيوعي #187;الكافر والملحد#171; . وفي العام 1998 نشر سلمان رشدي #187;آياته الشيطانية#171; التي استدعت فتوى خمينية أهدرت دمه وتسببت ببيع ملايين النسخ من كتابه وترجمته إلى لغات عالمية عديدة، وتسابق الصحف الغربية على ترجمة فصول ومقاطع منه .

غداة انهيار جدار برلين وزوال الاتحاد السوفييتي كان لا بد للقوة الأعظم التي وجدت نفسها من دون منازع، من البحث عن عدو جديد يبرر إنفاقها العسكري المتنامي، وتدخلها المتزايد في الشأن العالمي، وتمسكها بحلف الأطلسي رغم زوال حلف وارسو والمعسكر الشيوعي . وهكذا في فبراير/ شباط 1992 صدر عن حلف الأطلسي بيان يعدّ الأصولية الإسلامية خطراً يوازي ما كانته الشيوعية . ومنذ ذلك الوقت راحت مراكز العصف الفكري والأبحاث والدراسات والمجلات المرموقة في الولايات المتحدة، تركّز على التهديد الإسلامي والعدو الجديد #187;غير المنظور#171; وغير #187;المحدد المعالم#171; في الزمان والمكان . وتبين أن أشخاصاً محددين ينتمون إلى تيار فلسفي - سياسي يسمى بال#187;محافظين الجدد#171; (ريتشارد بيرل، بول وولفوفيتز، دانيال بايبس . . إلخ)، يحتلون مناصب عليا في هذه المراكز، ويصرفون أوقاتهم في تحليل هذا التهديد وتصويره على أنه وحش يتأهب للانقضاض على الحضارة الغربية المنفتحة والمسالمة .

ولم تكن من قبيل المصادفة أن دانيال بايبس، اليهودي الصهيوني الأمريكي، هو الذي دفع صحيفة دنماركية تعاني مشكلات مالية إلى نشر صور كاريكاتيرية مسيئة إلى نبي الإسلام . وقتها كان الائتلاف الحكومي الدنماركي هشاً وفي حاجة إلى اليمين المتطرف، فاضطر إلى الدفاع عن الصحيفة بذريعة حرية التعبير، رغم ما أنتجته هذه الأخيرة من كوارث على سمعة الدنمارك والعلاقة مع الجاليات والدول الإسلامية . وفي هولندا جاءت جريمة قتل المخرج فان غوغ على يد مواطن مسلم لتحدث هي الأخرى شرخاً جديداً في العلاقة بين الإسلام والغرب . ورأت صحيفة #187;شارلي إيبدو#171; الفرنسية التي لم يكن يسمع بها أحد، الفرصة مؤاتية للشهرة والانتشار، فأعادت نشر الرسوم الكاريكاتيرية الدنماركية .

وبالتأكيد فإن ردود الفعل التي شاهدناها على فيلم #187;براءة المسلمين#171; كانت متوقعة ولم يكن نشر الدقائق الأربع عشرة منه على #187;اليوتيوب#171; بريئاً، لاسيما في 11 سبتمبر وما يحمله هذا التاريخ من ذكرى، وفي ظروف معركة انتخابية أمريكية يريد منها المتطرفون الأمريكيون من #187;حزب الشاي#171; والمحافظين الجدد، العودة إلى الحكم بعد الهزائم التي حلت بهم في عهد الرئيس بوش الابن .

العمل ليس بريئاً بالطبع ولكن ردود الفعل عليه تبرهن هي الأخرى أن ثمة مشكلة عند المسلمين الذين مايزالون يتصرفون بطريقة غرائزية انفعالية غير مدروسة تسيء إليهم قبل غيرهم . لقد مات في المظاهرات المنددة أربعة عشر مسلماً باكستانياً وجرح كثيرون، كما دبت الفوضى في بعض العواصم الإسلامية نتيجة المظاهرات، وانتشرت صورة الغضب الشعبي الإسلامي في العالم كله ليستغلها المستغلون الباحثون عن تشويه صورة الإسلام والمسلمين . وبذلك يكون الفيلم قد حقق مراميه كافة بل أكثر . وبات من المؤكد من الآن فصاعداً، أنّ من يبحث عن شهرة أو تسويق عمل ضحل، ما عليه سوى استفزاز أكثر من مليار مسلم في العالم بطريقة باتت معروفة ممجوجة .

ليس المطلوب الامتناع عن الرد على الإساءات التي باتت متكررة بحق المسلمين ورموزهم الدينية، بل المطلوب هو إعادة النظر في نوعية الرد وفعاليته . ينبغي أن نعلم أن #187;القوة الناعمة#171; باتت في عصرنا هذا أكثر قوة وفعالية من الانفعالات والغرائز . فالصهاينة يستخدمون هذا النوع من القوة في ضغوطهم على الحكومات الغربية التي استصدرت قوانين تمنع الإساءة إلى اليهود والصهيونية، بل إنها تمنع مجرد التفكير في إعادة النظر بما يعدونه حقائق تاريخية متعلقة بالهولوكوست . ينبغي على الدول والجاليات العربية والإسلامية استخدام نفوذها الديموغرافي والانتخابي والمالي والسياسي والفكري وغيره كي تحث هذه الدول على استصدار قوانين مشابهة للقوانين التي تكافح #187;معاداة السامية#171; .

لقد أسهم المفكرون العرب، إلى جانب نظرائهم في الغرب، في تفنيد ونقد أطروحة صموئيل هانتنغتون عن #187;صدام الحضارات#171; . لكن هذه الأطروحة التي خلنا أنها دفنت مع صاحبها تعود إلى التداول مجدداً بسبب فيلم تبارى على وصفه المسؤولون الغربيون قبل غيرهم بالبذيء والسخيف والمنحط . ينبغي أن يكون الحدث مناسبة للتفكير في كيفية تنظيم وتفعيل قدراتنا الفنية والفكرية والمالية على مقارعة الآخرين في مجال #187;القوة الناعمة#171;، على خلفية ربيع عربي نأمل أن يحمل تغييراً في الأنماط السياسية والفكرية القائمة والموروثة من أنظمة بائدة وأخرى تنتظر .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"