لم يحن وقت فطام الاقتصادات بعد

21:06 مساء
قراءة 4 دقائق

د. محمد الصياد *
كان لافتاً تصريح سيسيليا روس المستشارة الاقتصادية للبيت الأبيض للصحفيين يوم الجمعة 14 مايو 2021، بأن الطفرة الحالية في معدل التضخم في الولايات المتحدة، ستكون مؤقتة، وأن عدم توازن العرض والطلب الناجم عن الجائحة، والعودة السريعة للنشاط الاقتصادي، قد دفعت التضخم للارتفاع. لكن ذلك لن يدوم، كما قالت؛ بل إنها توقعت أن يتلاشى ذلك خلال الأشهر المقبلة. تصريحات الواجهة الرسمية للبيت الأبيض في الشؤون الاقتصادية، جاءت لتؤكد تطمينات الجهة المسؤولة عن تسيير السياسة النقدية؛ أي مجلس الاحتياطي الفيدرالي الذي كان أرسل رسائل تطمين لأوساط أسواق المال والقطاع المصرفي (أهم قطاعين اقتصاديين في أمريكا)، بأن صعود التضخم لن يدفع الاحتياطي لتشديد السياسة النقدية؛ أي إنه بكل بساطة لن يرقع سعر الفائدة البنكية لكبح جماح الاتجاه الصعودي للتضخم.
منذ عام 1996، توافق صانعو السياسة النقدية في مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على أن المعدل المستهدف للتضخم، هو 2%، على الرغم من عدم إعلانه رسمياً، وذلك للاحتفاظ بمرونة السياسة النقدية الخاصة بسعر الفائدة. لكن في يناير عام 2012، قرر الاحتياطي الفيدرالي، إبان ولاية رئيسه بن برنانكي، الإفصاح علناً ورسمياً عن هدف التضخم، وهو نفسه الذي كانت تدور حوله التكهنات، مع وضعه الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي نفسه على نفس الموجة لجميع البنوك المركزية الرئيسية. وبموجب هذه السياسة، فإنه عندما كان التضخم يقترب من هدف 2% أو يتجاوزه، ولو مؤقتاً، كما في 2018، كانت اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة ترد على ذلك برفع سعر الفائدة لكبح ارتفاع الأسعار. وفي أغسطس 2020، في مؤتمر جاكسون هول عبر الإنترنت، أعلن رئيس الاحتياطي الفيدرالي جاي باول، عن مراجعة إطار السياسة النقدية طويلة المدى من خلال إعادة صياغة هذا الهدف بجعله هدف تضخم متوسطاً، يتراوح حول نسبة 2% على المدى الطويل. 
وبموجب هذه السياسة النقدية المستحدثة، تعلن لجنة السوق الفيدرالية المفتوحة أنها ستتحمل ارتفاع مستوى التضخم فوق الهدف المعلن لفترة من الوقت لتعويض الفترات التي كان فيها التضخم أقل من معدله المستهدف.
وبحسب مكتب إحصاءات العمل الأمريكي الذي يصدر منذ عام 1913، تقريراً شهرياً حول مؤشر أسعار المستهلك (CPI)، فقد سجل شهر إبريل الماضي ارتفاعاً كبيراً في معدل التضخم بلغ 4.2%، مقارنة بمستواه المسجل في إبريل من العام الماضي. وحتى لو استُبعد الارتفاع في أسعار المواد الغذائية والطاقة (اعتباراً بتقلباتها كما يفترض أصحاب هذه المقاربة القياسية للتضخم)، والاكتفاء فقط بما يسمى بالتضخم الأساسي أو «زبدة التضخم» (Core inflation)، فإن الارتفاع في مؤشر أسعار المستهلك قد ارتفع بنسبة 3% على أساس سنوي.
في الواقع، فإن تصريحات مستشارة البيت الأبيض للشؤون الاقتصادية وقبلها تطمينات مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي، من أن الارتفاع الحالي لمعدل التضخم، هو مؤقت سرعان ما سيزول بعد توازن قوى السوق (عرضاً وطلباً)، تنسجم ولا تتناقض مع خط السياسة النقدية المتصلة بالسيطرة على التضخم على المدى الطويل، الذي رسمه الاحتياطي في أغسطس من العام الماضي. إنما السؤال: هل فعلاً ما يحدث مجرد موجة مؤقتة ناتجة عن إعادة «فتح خزانات السد» بعد غلقها في وجه تداعيات جائحة كورونا، أم إن الأمر يتعلق بجانب آخر لا علاقة له بالعودة إلى دورة الأعمال كالمعتاد (Business as usual)؟ ولماذا لا تكون هذه الموجة التضخمية مرتبطة بمدى طول فترة صعود الدورة التي قد تمتد إلى ما هو أبعد من الأشهر القليلة التي وعد بها الاحتياطي الفيدرالي؟ وهذا ما ألمح إليه، على أية حال، ريتشارد كلاريدا، نائب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الذي قال الاثنين 17 مايو 2021: «إن إعادة فتح اقتصاد بقيمة 20 تريليون دولار (يقصد الاقتصاد الأمريكي)، ربما يستغرق وقتاً أطول من الوقت الذي قد يستغرق لإغلاقه».
لاحظ أننا نتحدث عن التضخم المرصود في الاقتصاد الأمريكي وليس العالمي. ولكن الاقتصاد الأمريكي هو الذي يحدد مسار تحركات التدفقات النقدية عبر العالم، سواء من خلال حركة الأموال اليومية عبر أقنية أسواق المال أو القطاع المصرفي، أو عبر سيطرة العملة الأمريكية على معظم وظائف النقد الأساسية، لاسيما الوظائف التالية: مقياس للقيمة، وأداة تداول، وأداة دفع دولية، ولذلك فإن التضخم الأمريكي لابد أن يتداعى عالمياً.
وبالعودة إلى كلام المستشارة الاقتصادية للبيت الأبيض، فإننا نقرأ فيه ما معناه، أن الإدارة الاقتصادية للرئيس بايدن، بناء على نصائح مجلس إدارة مجلس الاحتياطي الفيدرالي، ليست في وارد  أو بالأحرى لا تستطيع  قطع «أنبوب التغذية» الذي أدمنه الاقتصاد الأمريكي، والاقتصادات العالمية عموماً، بفائدة زهيدة تكاد تلامس الصفر، لكن ما صدر من تلميحات بعد اجتماع الفيدرالي الأخير، يوحي بأن هناك استعداداً عند لحظة معينة للتدخل في ما يتعلق باحتمال رفع سعر الفائدة وتقليل وتيرة شراء الاحتياطي المنتظم للأصول لتنشيط الدورة.
*كاتب بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"