منارات لا تنطفئ

06:03 صباحا
قراءة 4 دقائق

أيعاني العالم من الحروب والمجاعة؟ نعم، لكن معاناته الحقيقية أكبر من ذلك، فالعالم اليوم يرزح تحت وطأة الجبن وضياع الأخلاق التي تتعرض يومياً للموت المباغت .

نحن نعيش في عالم يسيطر عليه السعي وراء المصالح ويحكمه الجشع ويحيط به النفاق والرياء من كل جانب، فهو عالم منهار ينتظر نهايته المحتومة، لكن بارقة أمل تومض في سمائه من حين لآخر، ويظهر في صحرائه المقفرة سراب خادع يوهمه بأنه سيروي عطشه .

لكن، إذا كان للباطل جولة فإن للحق جولات، وإذا غشي النفاق أعيننا في كثير من الأحيان فإننا قد نرى بوضوح في بعض الأحيان حقيقة تأبى إلا أن تسطع كالشمس، فيصل شعاعها إلينا عبر كلمات تتجسد أفعالاً .

ولأن هذا الأمر نادر الحدوث في خضم هذا العالم، يبدو وكأنه شذوذ عن المألوف نلمسه في أسماء تأبى أن تفارق ذاكرتنا مثل الأم تيريزا، غاندي، مارتن لوثر كينغ ومانديلا .

تلك شخصيات فريدة قاتلت لأجل قضية وتركت في العالم المزيف بصمات ساطعة كالنور، وإني لأخشى وأنا أخط هذه السطور، أن يفقد العالم أحد هؤلاء، رجلاً طريح الفراش يصارع الموت وهو نيلسون مانديلا .

مانديلا الذي تحدى عالماً أراده أن يلزم الصمت، فهتف بأعلى صوته مطالباً بالحرية، مواجهاً الظلم والاضطهاد، وكان جزاؤه أن أمضى معظم حياته خلف جدران السجن، لكنه مع ذلك لم يتراجع وأصرّ على المطالبة بحقه، وفي النهاية كان الانتصار حليفه .

مانديلا اليوم في الخامسة والتسعين من عمره، رجل مسن مثله ماذا يمكن أن يقدم للعالم ؟ هذا ما يفكّر به الكثيرون، لكن الرجل الذي أعطى الكثير في مراحل حياته المختلفة، ما زال رغم تراجع قدراته مستعداً للاستمرار في الدفاع عن حقوقه! فلنتخيل، لو فقد العالم اليوم رجلاً مثل مانديلا كيف ستكون أيامنا المقبلة؟ ستغطي السحب القاتمة سماءنا لأننا سنفقد عيوناً نرى بها الحقيقة، وسنفقد عقلاً ملهماً يرشدنا إلى الصواب، وسنخسر عزيمة وإرادة تعلماننا التفاني في الذود عن قضايانا .

إن مانديلا من بين قلة قليلة من الناس لا يغريها منصب ولا مال للتخلي عن مبادئها، ولا يثنيها عن المطالبة بحقوقها سجن أو تنكيل أو تعذيب، علماً أن لا أحد في عالم اليوم مجبر على التمسك أو التخلي عن قضية هو مؤمن بها .

لقد عاش مانديلا في وطنه غريباً، فقد شب في أجواء التمييز العنصري وتهميش ذوي البشرة السمراء الذين سلب منهم البيض حقوقهم، وعاشوا تحت الظلم والاضطهاد فقط لاختلاف لونهم .

مانديلا كان مؤمناً بأن السكوت عن الحق ضعف وجبن، وأن عليه أن يواجه الظلم مهما كان الثمن، فسار في درب الكفاح غير عابئ بما يحدق به من أخطار، ولو لم يكن مانديلا رجلاً متميزاً لتراجع في لحظات، لكنه رفع راية الحرية وهتف بصوت الحق، فسار في طريق فيه أشواك أدمت قدميه، لكنه لم يهتم لنزف الدماء إذا كان الثمن هو الحرية .

الدماء؟ يمكن للجريح أن يغسل آثارها ولو بعد حين، كما يمكن لجراحه أن تندمل مع الوقت، لكن الكرامة تظل هدفاً يبقي رأس المرء شامخاً، وهكذا كان، فقد غدا مانديلا بإصراره عام ،1999 أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا .

إن تولي رجل أسود الحكمَ في وطن إفريقي منذ أربعة عشر عاماً فقط، أمر غامض يدعو إلى الريبة، لكننا نعلم أن الغلبة في كثير من الأحيان تكون لما هو غير منطقي وغير عادل! ففي عالم تجتاحه الحروب ويستنزفه الطمع والسعي وراء المصالح، يعوم البشر في بحر ميكافيلي ينتظرون فيه النتيجة لا شيئاً آخر، ووسط هذه الأجواء الكئيبة، قد يجد الأسى مساحة ليقبع في النفوس ونحن نرى مانديلا والقلة أمثاله، يتشبثون بخشبة تطفو بالأمل في قلب طوفان هائج يجتاح العالم .

في عام 2001 زار مانديلا دار الخليج للطباعة والنشر بالشارقة، تحدث في الندوة عن زيارته الأولى إلى الإمارات في 1995 وعن صراعه في المجيء إلى منطقة سمع بأنها تفتقر للحرية . ولكن بعد زيارته وجد العكس تماماً قائلاً: المنطقة تعامل مواطنيها بشكل يفوق كثيراً ما نجده في ما يسمى الدول الديمقراطية في الغرب . وأشار في هذا السياق، أن رؤية عدد كبير من النساء بين حضور الندوة، يعد مؤشراً على مستوى التقدم في الدولة .

لقد عرف مانديلا وهو يسعى إلى حرية شعبه أن شعوب العالم مثله تتعطش إلى الحرية، فقد راح في الوقت ذاته، يسعى إلى تحرير شعبه من الظلم ومن الاضطهاد ويحرر جلاده من قيود التحيز والعنصرية .

إننا نتمنى، أن يكون في الدنيا أناس مثل مانديلا يسعون إلى العدالة التي لا يمكن أن تتحقق وعلى العينين غشاوة تحجب عنهما رؤية الحق .

كلمات سمعتها من مانديلا لا تغيب عن بالي: في الواقع، لا يمكن أن أشعر بالحرية عندما أسلبها من الآخرين، كما أنني على يقين من أنني لن أكون حراً ما دامت حريتي مسلوبة، فالظالم كما المظلوم فقدا معنى الإنسانية .

نتمنى لك الشفاء ماديبا، ولتبقَ منارة لا تنطفئ لتضيء طريقنا إلى الأبد .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"