بريطانيا تنتمي للاستعمار الجديد

03:14 صباحا
قراءة 3 دقائق
الياس سحّاب

عرفت الحياة السياسية الدولية انطلاقاً من القرون الوسطى نظام ما عُرف بعصر الاستعمار الأوروبي الذي حمل بعد ذلك، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في منتصف القرن العشرين اسم عصر الاستعمار القديم، الذي كان يضم نادي الدول الأوروبية ذات النزعة الاستعمارية المنتشرة باحتلالها وأساطيلها، ونفوذها السياسي، في شتّى أرجاء العالم، وكان من أشهر هذه الدول فرنسا وبريطانيا في أدوارٍ رئيسية، إضافة إلى دول أخرى مثل البرتغال وإيطاليا وألمانيا وهولندا وبلجيكا. وقد شهد ذلك العصر عدداً من الصراعات بين هذه الدول الاستعمارية نفسها، إلى أن تُوّج ذلك العصر في النصف الأول من القرن العشرين بعد قرنين من الازدهار الاستعماري (الثامن عشر والتاسع عشر) بحربين عالميّتين: الأولى ١٩١٤-١٩١٨، والثانية ١٩٣٩-١٩٤٥ وقد تمّت في أعقاب هاتين الحربين محاولات لتقنين نتاج تلك الحروب أولاً بعصبة الأمم، ثم بهيئة الأمم المتحدة. غير أن ذلك لم يكن أكثر من محاولات شكلية لوضع إطارٍ شكليّ للنتائج العملية للحروب الاستعمارية التي شهدت التعبير الحقيقي عنها والصريح في اتفاقية سايكس-بيكو، كنتيجة للحرب العالمية الأولى، وفي ولادة عصر الاستعمار الأمريكي الحديث، كنتيجة للحرب العالمية الثانية، بعد أن ارتكب الاستعمار القديم جريمته في فلسطين باغتصابها وطرد شعبها، نتيجة لثلاثة عقود من الاستعمار البريطاني لها الذي ارتكب جريمته الكاملة بتنفيذ وعد بلفور مدعوماً بالاستعمار الفرنسي القديم.
وبشهادة العلّامة في التاريخ الدولي المؤرّخ البريطاني الكبير أرنولد توينبي، فإن موت الاستعمارين القديمين، البريطاني والفرنسي، قد تم في مياه قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر، بعد أن قرر جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس. وفي أعقاب ذلك العدوان أطلق توينبي عبارته الشهيرة: «لقد غرقت الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية (يقصد عصر الاستعمار القديم) في مياه قناة السويس». ولم يكن غريباً أن تقترن هذه النهاية بتدخل أميركي لوضع حدٍ دبلوماسي لنهاية العدوان الثلاثي على مصر. وهكذا شهدنا في الوقت نفسه وفاة الاستعمار القديم (البريطاني والفرنسي)، وولادة الاستعمار الجديد (الأمريكي)، في منتصف القرن العشرين.
بعد ذلك، وطوال النصف الثاني من القرن العشرين، مرّت بريطانيا بمرحلة من التقارب المهزوز مع دول القارة الأوروبية القديمة التي أطلق عليها الاستعمار الأمريكي الجديد اسم القارة العجوز. وشهدت تلك المرحلة التحاق بريطانيا بالاتحاد الأوروبي عند ولادته. ودشّنت ذلك التقارب التاريخي بوضع حدٍّ للانفصال الجغرافي لهذه الجزيرة البريطانية عن بقية القارة الأوروبية، بردم الفاصل بينهما (بحر المانش) بشق نفق تحت الماء، واضعة حداً تاريخياً للانفصال البري لبريطانيا عن بقية القارة الأوروبية.
ورغم مرور سنوات على انتماء بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي، فإنها بقيت في سياستها الدولية، بعيدة كل البعد عن محاولات التميّز الأوروبي عن السياسة الدولية الأمريكية، خاصة بعد عصر شارل ديجول في فرنسا، حتى وصل الأمر بالرئيس الفرنسي الجديد ماكرون إلى وصف حلف الأطلسي بين أوروبا والولايات المتحدة بأنه قد مات دماغياً.
لذلك لم يكن غريبا أن تصل النهاية الطبيعية لهذا الوضع المهتز في السياسة الدولية إلى حدوده كاملة الوضوح في انسحاب بريطانيا الكامل من الاتحاد الأوروبي، الذي تُوّج بفوزٍ مريح لحزب المحافظين اليميني على حزب العمّال اليساري.
وحتى يكتمل هذا المشهد التاريخي، فقد شاءت الظروف أن يقود التحوّل على كلتا الضفتين (الأمريكية والأوروبية) رجلان متشابهان في الشكل الجسدي، ومتشابهان سياسياً في انتمائهما إلى اليمين المتطرّف، ومتشابهان أخيراً في أنهما أصحاب المزاج الحاد المتطرّف: دونالد ترامب، وبوريس جونسون.
إنها ليست مناسبة لفوز اليمين البريطاني على اليسار البريطاني فقط، ولكنّها أيضا مناسبة تاريخية لإعلان خروج بريطانيا من بقايا عصور الاستعمار القديم الذي طالما كان مجال فخرٍ قومي، للانتماء نهائياً، وهذه المرة بلا تردّد إلى الانفصال بلا تراجع وتردّد عن أوروبا والانتماء النهائي إلى الاستعمار الجديد بقيادة الولايات المتحدة على مستويات السياسة الدولية والاقتصاد الدولي والتشابه الاجتماعي.
إنها محطة ترامب - جونسون التي ستكون انعكاساتها وارتداداتها ليس في حدود الولايات المتحدة وبريطانيا فقط، بل في المجال الأوروبي كلّه، وفي المجال العربي حيث ستصبح بريطانيا أكثر قُرباً في حضن الرعاية الكاملة للجريمة التي ارتكبتها في فلسطين في العام ١٩٤٨.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"