قراءة في صفحة الحوادث

05:38 صباحا
قراءة 5 دقائق

مثلما يقرأ الزائر لبلد معين درجة الانضباط فيه من أحوال المرور عبر شوارع العاصمة فإن الخبراء الاجتماعيين يقرأون الحالة النفسية ويفهمون البيئة المحيطة من خلال صفحات الحوادث في الصحف المحلية، لأنها تعكس بالضرورة نوعية الجريمة ومدى انتشارها، كما أن تحليلهم لها يعطيهم القدرة على فهم ما يدور في المجتمع ويغطى أمراضه المتوطنة ومشكلاته الطارئة على حد سواء، كما أن نوعية الجريمة هي مؤشر كاشف لدرجة السلامة العقلية للمجتمع يستطيع منها من يريد أن يفهم شعباً بذاته الغوص في أعماق تجمع بشري معين وفهم ظروفه المختلفة.

لقد حفلت صفحات الحوادث المصرية في الشهور الأخيرة بكم هائل من الجرائم الوافدة على المجتمع المصري، والتي تعكس إحساساً بالقلق وشعوراً بالإحباط وتدق ناقوس الخطر لأوضاع جديدة طرأت على مجتمع قديم عرف الدولة المركزية قبل كل دول المنطقة المحيطة، إذ إن مصر دولة معروفة تاريخياً بقوة القبضة الأمنية وهيبة الحكم وسطوة الأجهزة المتصلة بالأمن الجنائي والسياسي معاً، والقدرة على تعقب المجرمين وفتح الصناديق المغلقة لأسرار الجرائم الغامضة، وذلك كله بسبب ما هو متاح أمامها من حرية في الحركة واتساع في دائرة الاشتباه ووجود ميزات كثيرة، تقع في مقدمتها طبيعة الشعب المصري الذي يهوى الثرثرة ولا يتحمس كثيراً للاحتفاظ بالأسرار أو حجب المعلومات، وأستطيع هنا أن أرصد عدداً من العوامل التي تقف وراء ما يحدث حالياً والدوافع التي تتحكم فيما يدور، لذلك استأذن في عرض النقاط التالية:

أولاً: إن الفقر أب شرعي للجريمة ولكنه ليس المسؤول الوحيد عنها، فهناك جرائم الأثرياء أيضاً التي يجب تصنيفها في ملف مختلف لأسباب لا تتصل بالضرورة بالدوافع المادية قدر ارتباطها بالدوافع الأخلاقية، ونعود مرة أخرى إلى قضية القضايا وهي وقوع عشرات الملايين من المصريين تحت خط الفقر بمعناه المعاصر، أي قصور الموارد المتاحة عن تلبية الاحتياجات الجديدة حتى وإن لم تكن تلك الاحتياجات ضرورية، فكماليات الأمس أصبحت ضرورات اليوم، وفي ظني أن انتشار العشوائيات هو واحد من الأسباب التي تختفي وراء شيوع الجريمة لارتباطها بالفقر أولاً وبانعدام الخدمات الضرورية ثانياً فضلاً عما تزرعه في النفوس من إحباط، بل وحقد وما تنشره من دوافع الجريمة وعوامل التوتر.

ثانياً: إن انتشار المخدرات خصوصاً الأنواع الأكثر تدميراً منها قد أدت بدورها إلى شحن العقول بمظاهر الهلوسة وخيالات اللحظات المجنونة التي يقدم صاحبها على ارتكاب الجريمة بلا وعي حقيقي أو مسؤولية كاملة، ولقد كان شبابنا منذ عدة عقود يجلسون في النوادي أو المراكز الشعبية وأقصى أمانيهم زجاجة صغيرة من الجعة أو سيجارة ملغومة، فلما تعقبت الدولة ذلك بالإلغاء وتغليظ العقوبة اتجه الشباب إلى السموم الجديدة وأصبح الهيروين والكوكايين وكل أنواع البودرة القاتلة والحبوب المدمرة هي البديل الطبيعي للمشروبات الخفيفة أو المخدرات البسيطة، وسيطر الإدمان على قطاع كبير من أبنائنا وبناتنا وهم في ربيع العمر لم يقطفوا بعد زهرة الحياة ولم يستكملوا مسيرة الشباب، وتشير سجلات وزارتي الداخلية والعدل وأروقة المحاكم إلى أن معظم الجرائم التي جرى ارتكابها قد حدثت تحت تأثير المخدرات من مدمنين لم يفرقوا في لحظات خاطفة بين الخطأ والصواب. ولا يخالجني شك في أن الأغلب الأعم من الجرائم الجديدة تحدث تحت تأثير الأنواع الحديثة من المسكرات والعقاقير المخدرة التي تدخل بصاحبها في مراحل الغيبوبة والوهم، وهنا تثور ملاحظة تستحق التأمل وهي أن جرائم الأثرياء ترتبط بالمخدرات مثلما ترتبط جرائم الفقراء بها أيضاً، والفارق يكون في نوعية المخدر وإمكانات المدمن وقدراته المالية، لذلك فإن الحرب على المخدرات هي أيضاً حرب على الجريمة بكل أنواعها، وكثيراً ما نقرأ عن أنواع من الجرائم غير المسبوقة كأن يرتكب شخص محبط جريمة قتل من أجل بضعة جنيهات! ولا يخالجني شك في هذه الحالات أن مرتكب الجريمة قد فعلها وهو تحت تأثير المخدر الذي جعل عملية القتل وإزهاق الروح ممارسة سهلة يقدم عليها باندفاع وبلا وعي.

ثالثاً: لقد شاعت في السنوات الأخيرة في مصر نوعية من الجرائم التي يمكن تسميتها الجرائم العائلية، فأب يقتل أولاده وأم تخنق طفلها وفرد واحد يدمر عائلة بأكملها، فليس هناك عاقل يتصور أن يقتل أب ابنه وابنته اللذين يشغل كل منهما وظيفة ناجحة بعد أن يقتل زوجته أيضاً أمهما لمجرد أنه خسر بعض أمواله في اهتزازات البورصة، ولا يمكن أن يتصور أن يقوم أستاذ جامعي مرموق في احدى كليات الطب بقتل شخص في عيادته مهما كانت الدوافع والأسباب، ولمجرد دين مالي لا يمثل رقماً كبيراً بالنسبة للمدخول السنوي لذلك الطبيب الشهير. إننا أمام أنواع من الجرائم تعكس حالة الاحتقان في المجتمع، فالآباء يتحولون إلى قتلة والزوجات إلى مجرمات، وملائكة الرحمة إلى شياطين اللحظة، فضلاً عن عشرات الجرائم الأسرية الأخرى المرتبطة بالفقر والعشوائيات والمخدرات بدءاً من القتل وصولاً إلى السرقة مروراً بزنى المحارم.

رابعاً: يبدو أن المجتمع المصري قد خرج عن تقاليده وانسلخ عن تعاليم دينه برغم التدين الشكلي والصلوات والدعوات وأصحاب الفتاوى التلفزيونية وعشرات الآلاف من الذاهبين إلى الحج والعمرة سنوياً، فضلاً عن الملايين من المترددين على المساجد والكنائس وإلا كيف نفسر قيام رجل كبير وزوجته المحجبة بمشروع متكامل لتبادل الزوجات حتى في أيام شهر رمضان الفضيل الذي تختفي فيه شياطين الجن ويمرح شياطين البشر؟

خامساً: قد يقول قائل ولم كل هذه الثرثرة؟ إن الجريمة غير المسبوقة شائعة في كل دول العالم أو لم نقرأ عن ذلك الأب النمساوي الذي اغتصب ابنته لأكثر من عشرين عاماً واحتجزها في قبو تحت الأرض وأنجب منها سبعة أطفال وظل يمارس تلك الجريمة المزدوجة حتى وصل إلى منتصف السبعينات من عمره الملوث وقد جرى اكتشاف جريمته الغريبة والشاذة واللامعقولة بالمصادفة وحدها؟ وهنا أقول نعم.. الجريمة لا وطن لها وإن كان للمجرم جنسيته كما أنها لا ترتبط برجل أو أمرأة، بفقير أو غني، بجاهل أو متعلم، إنها ميراث بشري أزلي منذ قتل قابيل أخاه هابيل وحاول أن يخفي سوأته فتعلم من غراب أسود كيف ينبش في الأرض ويدفن جسم الجريمة، لقد جبل الإنسان على طبائع شر رغم اعترافي بوجود كل نوازع الخير، ولكنها في النهاية فلسفة الوجود وطبيعة الحياة وسنة الكون وأمراض الإنسانية.

تلك الخواطر استبدت بي لأنها وليدة لحظات اكتئاب ينتابني كلما قرأت عن الجرائم الجديدة، حيث يعتريني شعور حزين بأن تقدم مسيرة الإنسانية يواكبه أيضاً تقدم على الجانب الآخر للجريمة المنظمة والأفعال الآثمة والتجاوزات غير المسبوقة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"