الحصاد المُر لتيار «تغييري»

03:52 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

آن الأوان لليسار لاعتناق فكرة التقدم بغير حمولات أيديولوجية زائدة، وبغير استعارة نماذج تنموية فاشلة.
بين النتائج التي تمخضت عنها الانتخابات التشريعية الأخيرة في تونس، تقهقر اليسار من 15 مقعداً في انتخابات 2014 إلى مقعد واحد هذه المرة. وكان الدور للانتخابات الرئاسية قد تمخض عن تراجع مرشحي اليسار الاثنين؛ إذ نالا معاً أقل من 1 في المئة من الأصوات لكليهما. وهذه النتيجة تكشف عن عزلة لليسار عن حركة الشارع و«نبض» الناس، فيما تقوم أطروحات هذا الاتجاه على ادعاء تمثيل الجماهير خير تمثيل، وعلى التخندق في معارضة دائمة للأنظمة وللتيارات السياسية الأخرى.
وهذه النتيجة تتساوق مع تراجع مماثل لحركات اليسار في المشرق العربي التي تتغير الدنيا من حولها، فيما هي تتمسك بالمقولات نفسها والمقاربات ذاتها لفهم الأوضاع وتطورها. ومن هذه التغيرات أن التراسل بين مكونات المجتمع بات مفتوحاً عبر وسائط التقنية الجديدة، وأن تدفق المعلومات والتقارير يجري على مدار الساعة، وأن الناس لم تعد في حاجة لوسيط حزبي يزودها بالمعلومات والوقائع ووجهات النظر. ولا يحتاج المرء للانضواء في حزب حتى يقف على أحداث الدنيا وما فيها، وتكوين آراء حولها والتعبير عنها.
ومنها أيضاً أن المجتمع المدني بما فيه الجمعيات المتخصصة والمهنية، وجمعيات حماية المستهلك وحماية البيئة ومراكز التدريب وتطوير قدرات النساء ومحو الأمية، باتت تلعب دوراً فاعلاً يناظر دور الحزبيين والسياسيين، في رسم خطوط التنمية، وتأمين فرص العمل، وتطوير قدرات الأفراد، وربطهم بمنجزات العالم كله. ولا يتطلب الأمر ترديد شعارات مضى على صياغتها نحو قرن من الزمن.
ومن هذه التغيرات القناعات التي تدركها الأجيال الشابة بأن الأيديولوجيات الشاملة والحلول الخلاصية، لا مكان لها في مفهومهم. فالدول والمجتمعات الأكثر تقدماً هي تلك التي لا تحكمها أنظمة شمولية، واليسار مثل غيره من الأيديولوجيات، يبشر بعقيدة بشرية شاملة فشلت فشلاً ذريعاً في موطنها الأول.
كما يفوت هذا اليسار الإدراك بأن الأطروحات عن العدالة الاجتماعية، وهي محور نشاط اليسار، يتبناها كثيرون، ولم تعد حكراً على اليسار. ويضعون لها برامج وخططاً، وذلك في سياق التطوير العام والنهوض بالبلدان والمجتمعات، مع وضع أنظمة وتشريعات مختلفة للتأمينات الاجتماعية لمصلحة الشرائح الأشد فقراً، ولإزالة بؤر الفقر والتهميش. وأن الحد من الفوارق الاجتماعية بالضرائب وغيرها، وبالتنمية الشاملة يمثل بديلاً صالحاً لتأجيج الصراعات الاجتماعية.
وبهذا فإن كثرة من التيارات السياسية والاجتماعية أخذت بأفضل ما لدى اليسار بخصوص العدالة الاجتماعية، وتبنتها وعملت على وضع برامج لها. ونتذكر أن صعود الدول الآسيوية التي سميت بالنمور في تسعينات القرن الماضي، قد ترافق مع انهيار الأنظمة الاشتراكية، ومن دون أن تدعو الدول الصاعدة لأية أيديولوجية شمولية، باستثناء الدعوة للتطوير وحماية حقوق العاملين والمنتجين في سائر المواقع.
وإذ يقترن اليسار بمعاني النقد والتغيير والاعتراض والنهوض، فإن هذه المفاهيم باتت شائعة لدى أطراف سياسية واجتماعية وثقافية عديدة، تصنف على أنها إصلاحية، علماً أن الاصلاحيين يحققون نتائج أفضل لمجتمعاتهم من الراديكاليين كما يدل واقع الحال، ولم تعد هذه التوجهات وقفاً على تيار بعينه حتى يحق له النطق باسمها. وواقع الأمر أن ادعاء امتلاك الصواب السياسي والفكري، وتبخيس أهلية التيارات الأخرى، والزعم بإقامة فردوس أرضي، هو من بين الأسباب التي باعدت بين اليساريين وجمهورهم المفترض هنا وهناك.
لا ينكر المرء تاريخاً لليسار العربي سجل فيه نقاطاً مضيئة، وأنه تعرض للعسف في بعض المحطات، غير أن ذلك جاء في سياق موجات من النهوض والتطوير، ومن الدعوات للتحرر والاستقلال، والتضحية من أجلها، شاركت فيها أطراف وطنية عديدة، بعضها تصنف في خانة «اليمين» وفق تحديدات اليسار.
والحصيلة أن المسيرة إلى التقدم السياسي والاقتصادي والاجتماعي هي ثمرة روافد فكرية عدة، ومبادرات اجتماعية، وأنشطة النخب، كما تتم بسواعد وعقول العاملين والمنتجين والقياديين في سائر الميادين والحقول. وقد آن الأوان لليسار لاعتناق فكرة التقدم بغير حمولات أيديولوجية زائدة، وبغير استعارة نماذج تنموية فاشلة، أو التغني بأنظمة حكم تسلطية، تضع شعوبها في معزل عن العالم الخارجي. واللبيب من يتعظ بغيره، ومن يضع المستقبل نصب عينيه ولا يهلل للماضي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"