أرض التناقضات ومسرح التدخلات

03:21 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

لا تبدو الأحداث التي تشهدها فنزويلا منذ الثلاثاء الماضي 22 يناير الجاري، جديدة تماماً على هذا البلد الأمريكي الجنوبي الذي تعصف به الانقلابات منذ نحو نصف قرن. وما فعله رئيس البرلمان بإعلان نفسه رئيساً، في الشارع ووسط مؤيديه، هو بمثابة انقلاب أبيض أريد به استجرار المؤسسة العسكرية لدعمه، وهو ما امتنعت عنه هذه المؤسسة. لكن ذلك لم ينه الاحتجاجات الواسعة المنددة بالحكم، التي قابلتها مسيرات كبيرة مؤيدة للحكم. وليس من شأن الأزمة السياسية الجديدة سوى أن تزيد من عمق الأزمة الاجتماعية والاقتصادية حيث بات هذا البلد النفطي (أحد المؤسسين لمنظمة أوبك) طارداً لأبنائه إذ غادر نحو 4 ملايين فنزويلي خلال العقد الأخير إلى دول مجاورة.
كون ما جرى أقرب إلى انقلاب أبيض، يستند إلى أن الجمعية الوطنية رغم سيطرة المعارضة عليها، فإنها لم تنجح ولم تلجأ أصلاً إلى عزل الرئيس وفق إجراءات دستورية، وما فعله السياسي الشاب خوان غوايدو ( 35 عاماً) أنه قام بمزاحمة الرئيس على المنصب ومحاولة سلبه منه، ولبضعة أيام بدا أن رئيسين باتا يتصدران المشهد. غير أن بعض من أيد الانقلاب رأى أنه من الأوفق والأقرب إلى المنطق، تأييد الاحتجاجات الشعبية بدل تأييد بروفة مسرحية لانقلاب سلمي.
أما الحكم الذي يتشبث بالشرعية، فإنه مأزوم إلى درجة كبيرة، بعد أن نجح خليفة هوغو تشافيز، الرئيس الحالي في إفقار النسبة الأكبر من الشعب (التعداد العام 32 مليون نسمة) نتيجة الاعتماد الكلي على ثروة النفط (رابع احتياطي في العالم) وكثمرة لانخفاض سعر هذه السلعة الاستراتيجية في الأعوام الأربعة الماضية، ومحاولة إرضاء الشرائح الفقيرة برفع الرواتب وطباعة أوراق نقدية جديدة بكميات كبيرة، الأمر الذي أدى شيئاً فشيئاً إلى أن يمتلك الناس كميات كبيرة من الأموال، ولكن كلما زادت هذه الأموال تضاءلت قيمتها (قوتها الشرائية) وهو ما يوصف بالتضخم الذي ارتفع بصورة فلكية، مصحوباً بانقطاع المياه والكهرباء ونقص الغذاء والدواء، وأقام دولة فاشلة في هذا البلد الذي كان قبل عقود مقصداً للمهاجرين من أصقاع مختلفة، باعتباره ارض الفرص الواعدة.
تقهقر الأحوال هذا، يثلم شرعية الرئيس الحالي نيكولاس مادورو الذي جرى انتخابه في ظروف ملتبسة من خلال جمعية تأسيسية موازية للبرلمان في أغسطس 2017. وبعد أقل من عام أعيد انتخابه في انتخابات طعنت بها المعارضة. ولئن كان من الصحيح أنه يسهل توجيه الاتهامات وأشكال التشكيك، إلا أن اعتماد الحكم على التحالف مع العسكر وإفقار البلاد، والمواظبة على إطلاق شعارات شعبوية، قد ضيقت القاعدة الاجتماعية للحكم باستثناء الشرائح الأكثر فقراً التي تمتعت بدعم الدقيق وزيت الطعام، لكن الاحتياجات التموينية لا تقتصر على هاتين المادتين الحيويتين..
والأسوأ من ذلك هو الميل لاجتذاب قوى كبرى مثل روسيا والصين وإيران وتقديم تسهيلات واسعة لهذه الدول، في وقت تؤيد فيه أمريكا ودول غربية المعارضة بطريقة فجة بدل تأييد الآليات الدستورية وتكريس نهج ديمقراطي لتداول السلطة، ذلك جعل من فنزويلا مسرحاً لنفوذ الدول الكبرى وميداناً للصراع بينها، وليس مهماً بعد ذلك كيف يعيش الناس.
وعلى الأغلب فإن الأمم المتحدة لن تنجح خلال وقت قصير في نزع فتيل الأزمة، لا من خلال مجلس الأمن ولا من خلال إيفاد مبعوثين أمميين لتهدئة الموقف وتنظيم جولات حوار بين الحكم والمعارضة، إذ ستظل الانقسامات على حالها، وهو ما يجتذب مزيداً من التدخلات الدولية الفعلية التي لا تقتصر على المواقف السياسية، حيث تتجه أنظار القوى الدولية إلى المؤسسة العسكرية ومحاولة التأثير فيها ومد النفوذ إليها، كما يجتذب الأمر انقسامات أمريكا الجنوبية حول الموقف الواجب اتباعه من الأزمة الفنزويلية، وقد أيدت تسع دول رئيس البرلمان غوايدو بينما عارضته بقية الدول في القارة. هذا إضافة إلى المخاوف من تدفق المهاجرين من هذا البلد إلى دول أخرى، ومن زيادة نفوذ دول أجنبية في هذا البلد.
وفي النتيجة فإن الحرب الكونية الباردة المشوبة بهبات ساخنة، تنبعث من جديد في عالمنا، وتتخذ من أمريكا الجنوبية كما من الشرق الأوسط مسرحاً لها، ويساعد على ذلك هشاشة الأنظمة وضعف قاعدتها الاجتماعية والنزوع إلى التسلط، وافتقاد رؤية متماسكة للسيادة والاستقلال تحول بين التدخلات الخارجية في فرض نفوذها، وتغذية النزاعات الداخلية لمصلحة المتدخلين، وفنزويلا مثال جديد وسيعاني شعبها الكثير، وعلى الأغلب لن يكون المثال الأخير.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"