تأكيد جديد لظاهرة عربية متعاظمة

05:21 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

عندما تفجّرت الحراكات الجماهيرية في بعض بلاد العرب منذ تسع سنوات، ثم انطفأ بعضها، واختطف البعض الآخر، انبرت أقلام الغمز واللّمز والشماتة بوصف كل ما حدث بنعوت هجائية من مثل خريف أو شتاء العرب أو مؤامرة هذه الجهة الخارجية أو تلك.
آنذاك نبّه البعض منا إلى أن التاريخ يعلمنا بأن المجتمعات، ككثير من المجتمعات العربية، المليئة بالفساد والظلم والاستبداد، لا يمكن إلا أن تنتهي إلى انفجارات جماهيرية مماثلة. وقلنا إن ممارسي الفساد ونهب الثروات لن يكون لديهم الوعي السياسي الكافي ولا الحساسية الضميرية الإنسانية ليستوعبوا المعاني العميقة لما حدث في أجزاء من الوطن العربي، وليمارسوا شجاعة المساءلة والإصلاح قبل أن يواجهوا انفجارات جماهيرية مماثلة في مجتمعات عربية أخرى.
ولقد تحققت تلك النبوءة بعد حين قصير، فانفجرت الأوضاع في الجزائر والسودان، لتنتقل قبل بضعة أيام نفس الظاهرة إلى لبنان. ولن يكون الحراك في لبنان هو الأخير، طالما أن الكثير من قوى الحكم لم تصل إلى القناعة بأن أساس السيادة في الدول الحديثة أصبح هو الشعب. وأساس الحكم هو الشرعية التعاقدية المتمثلة في دستور ديمقراطي عادل مفصل للأسس والقيم التي تقوم عليها الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومحترم ومطبق بصورة صادقة من قبل الجميع وعلى الجميع، باعتباره مرجعية لا تعلوا عليها أي مرجعية أخرى.
في لبنان، ومنذ استقلاله، تميزت الحياة السياسية بغياب شبه كامل لسيادة الشعب وبهيمنة شبه كاملة لنظام إقطاعي طائفي، سواء في اكتساح الانتخابات، ومن ثم الاستيلاء على سلطة البرلمان، أو في أجهزة الحكم، حيث يقوم على المحاصصة بين الهويات الفرعية من دون رقيب أو مساءلة.
ولقد رسخ الدستور والقوانين تلك الظاهرة التي قادت إلى الفساد والنهب في الحياة الاقتصادية والمالية، وإلى ضعف الخدمات الاجتماعية للمواطنين.
لكن أهم ما قادت إليه تلك الممارسات هو إقناع المواطن اللبناني بقبول المساهمة في الإبقاء على ذلك النظام الإقطاعي الطائفي، وفي الاعتماد عليه، تصويتاً في الانتخابات، وتفتيشاً عن وظيفة، وسعياً لترقية في عمل.
ما يحير الإنسان هو صمود ذلك النظام الطائفي المشخصن، نظام ما قبل قيام الدولة الحديثة، عبر ثمانية عقود، في بلد طالما تفاخر أهله بانفتاحهم على الأنوار الأوروبية، وبانتشار المدارس والجامعات العصرية، وبزخم فكري باهر.
لكن لصبر الشعوب حدود. إن الضنك المعيشي والفساد الاقتصادي والمالي، ومشاعر الغضب من وجود مظالم كثيرة، وشعور الطبقة المستنيرة بالغربة والضياع، فجر اليوم في لبنان ثورتين: ثورة اجتماعية بمطالب معيشية وخدمية، وثورة ديمقراطية بمطالب سياسية ضد نظام الحكم وقادته.
لقد كان باستطاعة قوى السياسة أن تعي معاني انفجارات الحراك الشعبي، وإمكانات عدوى انتقالها، فتبادر في الحال إلى اتخاذ خطوات وقائية تمنع الوصول إلى المشهد الذي نراه أمامنا، لكنها لم تفعل ذلك.
لكن ذلك يقودنا إلى طرح السؤال التالي: إذا كانت قوى السياسة في لبنان لم تتعلم من دروس «الربيع العربي»، فماذا عن الحراك الجماهيري الذي يجوب شوارع مدن لبنان حالياً؟ هل يا ترى سيتعلم قادته من دروس وعبر نجاحات وفشل حراكات «الربيع العربي» عبر السنوات الماضية؟
هل سيعون أن تاريخ الثورات مليء بالثورات التفاوضية من جهة وبالثورات العبثية من جهة أخرى؟ هل ستكون لديهم قيادة تمثل أغلبية الجموع المحتشدة، كجبهة أو كتلة متناغمة ومتفاهمة على أهداف مشتركة؟ ثم ماذا ستفعل تلك القيادة في حالة الفشل؟ وماذا ستفعل، وهذا هو الأهم، في حالة النجاح؟
لنتذكر أن المصير البائس لبعض حراكات «الربيع العربي» كان سببه غياب مثل تلك القيادة، في شكل جبهة أو كتلة متفاهمة، وهو ما أدى إلى تضحيات هائلة دون نتائج ملموسة.
من حق لبنان الجميل المتدفق دوماً بحيوية سياسية باهرة أن تملك جهتاه المتقابلتان، قوى السياسة والسلطة من جهة وقوى الحشود الجماهيرية الصاخبة من جهة أخرى، الوعي التاريخي المطلوب: الوعي بأن ما يجري في لبنان هو جزء وجودي مما جرى ويجري في الوطن العربي من حراكات جماهيرية كبرى، والوعي بأن نتائج وحلول ما يجري في لبنان ستكون لهما تأثيرات بالغة في ما ستأتي به الأيام في طول وعرض وطن العرب.
التاريخ يعلمنا بأن الثورات الوجودية العميقة تبدأ، لكنها لا تنتهي حتى تتحقق أهدافها كاملة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"